المقدمة
شكَّلت اكتشافات إدوارد سنودن عام ٢٠١٣ (انظر Snowden ٢٠١٩) حدثًا محوريًا في تطوُّر مجال الاتصالات الآمنة. لقد أصبح تشفير الاتصالات على نطاق واسع مسألة تهم الجمهور؛ فبرزت صورة تخيلية جديدة ترى التشفير على أنّه شرط مسبق ضروري لتكوين شبكات رقمية مترابطة (Myers West ٢٠١٨). إلى جانب تحوُّل التشفير إلى قضية سياسية قائمة بذاتها، حفّزت اكتشافات سنودن نقاشات طويلة ومستمرة داخل مجال بروتوكولات المراسلة الآمنة. ركّزت مجتمعات المطوِّرين المختصّين بالتشفير —لا سيما الجمعيات الأكاديمية وجماعات البرمجيات الحرة— جهودها لتصميم بروتوكولات مراسلة آمنة من الجيل الجديد للتغلب على حدود البروتوكولات الحالية. رغمًا عن اختلاف جماهيرهم المستهدفة، وقيَمهم الأساسية، ونماذج أعمالهم، وهياكلهم التقنية، يجمع المطوِّرين والتقنيين هدف مشترك يتمثل في ابتكار أدوات ’’إخفاء لصالح الحرية‘‘ (Ermoshina وMusiani ٢٠٢٢).
في ظل تجربة الهياكل التقنية المختلفة، يزداد قلق مستخدمي أدوات المراسلة الآمنة من منصات التواصل الاجتماعي ومنصات المراسلة المملوكة والمُمركَزة ويفقدون الثقة فيها تدريجيًا (Ermoshina وMusiani ٢٠٢٢)، وظهرت الحاجة للبحث عن بدائل، سواء كانت تقنية-اجتماعية أو سياسية. يضاف ذلك إلى غياب الثقة بالديمقراطيات التمثيلية وانتقاد الأشكال التقليدية للمشاركة السياسية (Rosanvallon وGoldhammer، ٢٠٠٨؛ Bennet وآخرون، ٢٠١٣؛ Blondiaux، ٢٠١٧). علاوة على ذلك، يُنظَر إلى هذان المستويان من عدم الثقة في بعض الدول على أنّهما مرتبطان بسبب ’’العلاقات الخطيرة‘‘ بين الحكومات والشركات التي وَثَّقها التاريخ الحديث (Musiani، ٢٠١٣)، خاصة فيما يتعلق بالمراقبة والخصوصية على الإنترنت (Snowden، ٢٠١٩) رغم أنّهما يستندان إلى ظواهر مستقلة في غالب الأحيان. وبالفعل، يزداد تشكُّك المستخدمين في مشاركة بياناتهم مع المنصات المُمركَزة التي تمتلك —بفضل تصميمها ونموذج أعمالها— سلطة هائلة في تصفية المحتوى وحظر حسابات المستخدمين. إضافة إلى الرقابة الحكومية على الإنترنت، قد تؤثر الرقابة القائمة على المنصة أو الوسطاء (Zuckerman، ٢٠١٠) على فئات متنوعة من المستخدمين، من أصحاب التوجّهات المتطرفة وإلى المدافعين عن حقوق الإنسان والناشطين من مجتمع الميم-عين+، وحتى الصحافيين الذين يتناولون مواضيع جدلية (انظر DeNardis وHackl، ٢٠١٥).
في أثناء هذا البحث عن البدائل، تشهد الهياكل ’’الاتحادية‘‘ —باعتبارها أساسية للمراسلة والتواصل الآمنين— فترة ازداد فيها تطويرها واستخدامها. تُعرَض هذه الهياكل كبدائل، من جهة؛ للتطبيقات المُمركَزة التي تُعدّ ’’نقطة عطل مفردة‘‘ في الشبكة وتفتقر إلى التشغيل البينيّ (Interoperability). ومن جهة أخرى؛ للتطبيقات التي تعمل على مبدأ الندّ-للند (End-to-end) والتي تتطلّب مستويات أعلى من التفاعل والخبرة والمسؤولية من المستخدم (وجهازه). تُوصَف الاتحاديّة أحيانًا بأنها مشروع تقني-سياسي طموح؛ إذ تعمل الهياكل الاتحادية على توسيع ’’الفريق الأساسي‘‘ من مصممي البروتوكولات ويظهر فيها دور جديد؛ دور مدير النظام المسؤول عن صيانة مجموعة الخوادم التي تحتاجها الشبكات الاتحادية. يُعتقَد أن الاتحادية تساعد في تخفيف درجة المسؤولية الشخصية التي يحملها مزود الخدمة الممركَز، وفي الوقت ذاته تعمل على توزيع هذه المسؤولية و’’وسائل الحوسبة‘‘(١)—الموارد المادية واللوجستية التي يتطلبها النظام— على هيئة درجات متفاوتة من التفاعل، مما يفضي إلى حرية المستخدمين في اختيار الحلول والخوادم المناسبة وفقًا لاحتياجاتهم وقيمهم الشخصية.
بدلًا من التركيز على السؤال التقليدي في حوكمة المحتوى حول شرعية فرض الرقابة على بعض المستخدمين، يركّز بحثنا على طريقة مساهمة اختيارات معيّنة في تصميم الهياكل المعرفية ونشر البنى التحتية لمنصات التواصل الاجتماعي الاتحادية؛ فتُشكِّل هذه الاختيارات إمكانات تقنية، تؤدّي بدورها إلى تغييرات في عمليات الإشراف على المحتوى. إلى جانب مبدأ التصميم الآمن (انظر Cavoukian، ٢٠١٢)، نتساءل: هل يمكننا أن ننشئ ’’فضاءات آمنة التصميم‘‘ لنَصِف الترتيبات التقنية-الاجتماعية التي تتيح حوارًا أكثر أمانًا عبر الإنترنت؟ وما هو الدور المحدَّد الذي يؤديه مشرفو المحتوى البشر في البيئات الاتحادية؟
تسرد المقالة أولًا الأسس النظرية والمواد التجريبية التي يستند إليها البحث، ثم المنهجية المستخدمة في تحليله. تحلِّل المقالة «الفيديفيرس» باعتباره نموذجًا بديلًا لتوزيع المحتوى والإشراف عليه، وتصف بإيجاز المشاريع الرئيسية والمبادئ التي وُضِعَت عند تأسيسه. ثم تقدِّم صورة تحليلية لثلاث دراسات حالة تمثل ممارسات تستند إلى الهياكل الاتحادية في حوكمة الإشراف على المحتوى؛ إذ تستعرض هذه الدراسات مظاهر تنظيم المجتمع، وتوزيع المعلومات، والأدوات التقنية-الاجتماعية البديلة للتعامل مع التحرش على الإنترنت، أو خطاب الكراهية، أو نشر المعلومات المضلِّلة. بالإضافة إلى الفرص التي توفرها هذه الأدوات للمشرفين و’’المستخدمين النهائيين‘‘، تكشف هذا الدراسات أيضًا الحواجز التي قد تنشأ عند نشر النماذج الاتحادية.
الإطار، والأسس النظرية، والمنهجية
في أبحاثنا السابقة التي ركزت على مجتمعات الناشطين والصحافيين ما بعد الاتحاد السوفييتي واستخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي، استكشفنا نمطًا مثيرًا للاهتمام أطلقنا عليه مسمّى ’’الهجرة الرقمية‘‘، والذي يشبه ’’تبديل المنصات‘‘ كما وُصِف في أدبيات الإدارة (انظر Tucker، ٢٠١٩). حدَّدْنا ما لا يقل عن موجتين بارزتين من الهجرة: هجرة من «Vk.com» إلى «فيسبوك» (٢٠١١-٢٠١٢) وهجرة أخرى من «فيسبوك» إلى «تيليجرام» (٢٠١٦-٢٠١٨). في الوقت الحالي، وبسبب الجدل حول تعاون «تيليجرام» المحتمَل مع الحكومة الروسية (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢١)، بدأت موجة ثالثة من الهجرة تتجه نحو تبنّي بدائل لامركزية مثل «ماتريكس/أيليمينت»، و«ماستدون»، و«بليروما»، و«Delta.Chat»، وغيرها. هيّأت الحرب في أوكرانيا، وما تبعها من ممارسات للسيطرة على المعلومات، فرصًا جديدة لظهور منصات اتحادية مفتوحة المصدر كخيار بديل محتمل يتميّز بالموثوقية والقدرة على مقاومة الرقابة.
في ما يُعرف بدول ’’الشمال العالمي‘‘، انطلقت موجة هجرة رقمية مشابهة أثرَّت على الناشطين (من مختلف التيارات السياسية)، والمجموعات المهمَّشة، ومحبّي التكنولوجيا، وصحافيين هاجروا من منصة «تويتر/إكس» إلى منصات لامركزية ومفتوحة المصدر تُشكِّل ما يُعرف بـ«الفيديفيرس»، ويُعتبر «ماستدون» أبرز مثال على ذلك(٢). تشمل هذا المنصة الآن بضعة ملايين من المستخدمين النشطين، وتقدِّم بنية اتحادية للتدوين المصغَّر، فأصبحت مثالًا على ”الفضاء الرقمي الديمقراطي المشترك“ (Kwet، ٢٠٢٠).
إضافة إلى الأدبيات الحديثة التي تدرس تفاعل الهياكل الاتحادية مع حوكمة الإشراف على المحتوى (Hassan، ٢٠٢١؛ Gehl وZulli، ٢٠٢٣؛ Rozenshtein، ٢٠٢٣)، تجادل هذه المقالة بأن الاتحادية قد تفتح آفاقًا لممارسات جديدة في حوكمة الإشراف على المحتوى. تطرح الاتحادية نموذجًا يقوم على تنوُّع ”الفضاءات الأكثر أمانًا“، عبر الجمع بين تنظيم المجتمعات، وتوزيع المعلومات، واستخدام أدوات تقنية-اجتماعية بديلة لمواجهة التحرش الرقمي، وخطاب الكراهية، ونشر المعلومات المضلِّلة. مع ذلك، يطرح هذا البديل أيضًا إشكالات وصعوبات قد تعيق تنفيذه، وتستوجب التحليل لنضمن إدراك كامل لطبيعة النماذج الاتحادية وإمكاناتها.
فضّلنا استخدام مصطلح ”فضاءات أكثر أمانًا“ على مصطلح ”فضاء آمن“، استعرنا هذا المصطلح من مقابلة أجريناها بتاريخ ١٩ نيسان ٢٠١٧ أثناء عمل ميداني مع ناشطة نسويّة روسيّة تُدعى [ل]. أجرَت[ل] قراءة نقدية للوعد المتفائل بشأن التكنولوجيا المتمثِّل بتحقيق الأمان والخصوصية المطلقة على الإنترنت، وأكّدت أن أي منصة رقمية، مهما بلغت درجة خصوصيتها، تظل معرضة لخطاب الكراهية، وأن اللامركزية لا توفر سوى حماية جزئية.
في الآونة الأخيرة، ضُمِّن مفهوم ”الفضاءات الأكثر أمانًا“ في سياقات رقمية وغير رقمية، يُحدّدها إطار من الحدود والمبادئ والممارسات؛ حيث ينبع الإحساس بالأمان من فعل الانفصال الطوعي، الذي يُصنَّف أحيانًا بوصفه شكلاً من أشكال ’’الانفصالية‘‘ (Seperatism)(Deller، ٢٠١٩). نرى أن المنصات الاتحادية تتيح للمجتمعات المستقلة فرصة إنشاء فضاءات خاصة بها، تُصمِّمها وفق احتياجاتها، وتديرها بنفسها، وتحافظ عليها. وتقوم هذه الفضاءات على أسس من القيم المشتركة، أو الاهتمامات المتقاربة، أو الانتماء إلى ثقافات محددة تجمع بين أعضائها.
بالتركيز على الهياكل الاتحادية بوصفها محورًا تحليليًا رئيسيًا، نولي اهتمامًا خاصًا للواجهات والبروتوكولات التي تستند إليها هذه الأدوات (مثل الدور الجوهري الذي يؤديه بروتوكول«ActivityPub» والإمكانات التي يوفِّرها لتحقيق التشغيل البينيّ). نستند في تحليلنا إلى منظور دراسات العلوم والتكنولوجيا (STS)، فنستحضر إسهامات دراسات البنية التحتية (Star، ١٩٩٩)، ونتابع تطوُّرها في دراسات البرمجيات الحديثة (Fuller، ٢٠٠٨)، لنُحلِّل البرمجيات بوصفها نتاجًا مشتركًا يُسهِم في بناء أنماط محددة من المشاركة. نرى أيضًا أنّ خصائص البروتوكولات والواجهات في هذه المنصات الاتحادية قد تُقلِّل من إمكانيات نشر المعلومات المضلِّلة، والمراقبة، والتحرش عبر الإنترنت مقارنةً بالمنصات الممركَزة مثل «إكس» و«فيسبوك». سنُركّز على ممارسات ضبط المحتوى المضمَّنة في البنية التقنية للمنصات الاتحادية، وسنُبيِّن في الوقت نفسه حدود نهج ”الفضاء الأكثر أمانًا منذ التصميم“، وسنسلِّط الضوء على الدور الجوهري الذي تؤديه المجتمعات، والسياسات، والفاعلية البشرية. يتناول القسم التجريبي من هذه المقالة ثلاث دراسات حالة: خدمة «ماستدون» الاتحادية للتدوين المصغَّر والتواصل الاجتماعي، وبروتوكول الاتصالات الفورية الاتحادي «Matrix.org»، والجدل المحيط بإطلاق شركة «ميتا» لمنصة التدوين المصغّر «ثريدز» في أيار من عام ٢٠٢٣.
«ماتريكس» و«ماستدون» هما المثالان الأكثر شيوعًا لتطبيقات اتحادية تشترك في عدة ميزات، مثل البنية اللامركزية، وإمكان الاستضافة الذاتية، والكود مفتوح المصدر، والتشغيل البينيّّ. تعمل منصة «ماستدون» كشبكة تواصل اجتماعي، في حين تقدِّم «ماتريكس» نظام مراسلة مشفّر بالكامل بين الأطراف. تُسهم المقارنة بين هاتين الأداتين في الكشف عن أثر النموذج الاتحادي على ممارسات الإشراف على المحتوى بوصفه بنية تنظيمية.
يندرج هذا البحث ضمن مجال دراسات العلوم والتكنولوجيا (STS)، وتحديدًا ضمن دراسات البنية التحتية، التي تسمح لنا بأن نركِّز على الجوانب الهيكلية والبنيوية في المنصات الاتحادية. ومن هذا المنطلق، يخوض بحثنا في نقاشٍ مع الأدبيات الحديثة متسارعة النمو التي تتناول قضايا الإشراف على المحتوى وحوكمة فضاء «الفيديفيرس» (Bono وآخرون، ٢٠٢٤). وإلى جانب الأعمال المنشورة سابقًا في مجلات علمية استعرضها الأقران، نودّ أن نشير أيضًا إلى الأعمال متعددة المجالات التي لا تزال قيد التطوير، والتي عُرِضَت ضمن «مؤتمر أبحاث ماستدون» التي عُقِدَت في حزيران من عام ٢٠٢٣ في جامعة وارويك(٣). تُجسِّد هذه المساعي الأخيرة نحو تأطير «الفيديفيرس» نظريًا ”من الداخل“— على يد مديري النظام والنسخ التشغيلية، والمستخدمين النشطين— بيئةً لا تزال في طور التكوين، وتعكس درجة بارزة من الوعي لدى هذه المجتمعات بشأن أدواتها وسلوكياتها.
تعتمد هذه المقالة على دراسة إثنوغرافية عبر الإنترنت لمنصتين اتحاديتين للمراسلة الآمنة والتدوين المصغّر؛ «ماتريكس» و«ماستدون»، إلى جانب مجتمعات المستخدمين المرتبطة بها. شملت الدراسة مقابلات مع ٢٠ مستخدم و٥ مطوّرين لتطبيقات اتحادية للمراسلة، تلَتْها سلسلة مقابلات مع مشرفي خوادم «الفيديفيرس» (سبع مقابلات)، إلى جانب مراحل متفرقة من الإثنوغرافيا الرقمية في منتديات النقاش المخصَّصة لمطوّري الأدوات الاتحادية ومشرفيها (مثل مجموعة «The Social Web Incubator Community» التابعة لـ«W3C»(٤)). أُجريت هذه الدراسة أولاً في إطار مشروع «H2020» متعدد التخصصات حول المراسلة المشفَّرة اللامركزية «NEXTLEAP» (nextleap.eu، ٢٠١٦-٢٠١٨) واستمرّ المؤلّفان في متابعته بصورة مستقلة منذ انتهاء المشروع رسميًا (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢١ و٢٠٢٢).
نمو «الفيديفيرس» في إطار موجات ”الهجرة الرقمية“ المتزايدة
أجرينا دراسة سابقة بين عامي ٢٠١٦ و٢٠١٨ شملت أكثر من ٩٠ مستخدمًا لتطبيقات المراسلة المزوَّدة بتشفير تام بين الأطراف. في هذه الدراسة (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢٢)، استكشفنا الدوافع التي تقف وراء تفضيل المستخدمين لأداة معيّنة —إلى جانب أسئلة بحثية أخرى— من أدوات المراسلة الآمنة. في ظلّ سوق نشطة لتطبيقات تعتمد مبدأ ”الخصوصية منذ التصميم“، يبرز سؤال مهم: لماذا يفضِّل المستخدمون أداة على أخرى؟ بالنسبة لغالبية المشاركين في مقابلاتنا، لم يستند الاختيار إلى الخصائص التشفيرية للبروتوكول؛ بل حتى المستخدمين المتمرِّسين تقنيًا —من مطوِّرين، وخبراء تشفير، ومديري أمن معلومات— كثيرًا ما فضّلوا أن يستخدموا أدوات أقل أمانًا رغم معرفتهم بوجود ثغرات أمنية فيها (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢٢، ص: ٦٦–٨٨). على سبيل المثال، فإن نجاح «تيليجرام» في روسيا —الذي حلَّلناه بشكل موسّع في ورقة مخصصة (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢١)— لم يكن مرتبطًا بجودة بروتوكولاته التشفيرية، والتي كثيرًا ما ينتقدها مجتمع الأمن الرقمي (Albrecht وآخرون، ٢٠٢٢). بدلًا من أن يكون مبنيًا على الجوانب التقنية، ارتكز اختيار كثير من المستخدمين لـ«تيليجرام» على قوّة علامته التجارية، وحضور مؤسِّسه الجذّاب، وانفتاح واجهة برمجة التطبيقات (API). فجذبَت المنصة المساهمين، إذ سمحت لهم ببناء البوتّات، وتصميم الملصقات (Stickers)، وتطوير نسخ متفرعة ومستقلة من التطبيق.
مع ذلك، بيّن تحليلنا أن شعبية المنصات والأدوات تتقلب مع الوقت، إذ تشهد فترات من الذروة وأخرى من التراجع، ولا ينبغي أن تُعتَبَر ثقة المستخدمين أمرًا مُسلَّمًا به. كما أوضحنا سابقًا، شوهدت عدّة موجات من ”الهجرة الرقمية“ منذ عام ٢٠١٠؛ أي انتقال المستخدمين من منصة إلى أخرى استجابةً لأحداث معيّنة، وغالبًا ما تكون تلك الأحداث ذات طابع تقني أو سياسي. وهكذا، لعبت اكتشافات سنودن دورًا حاسمًا في هجرة المستخدمين من أدوات غير مشفَّرة مثل «ماسنجر» التابع لـ«فيسبوك» إلى أدوات مشفّرة بالكامل بين الأطراف مثل «سيجنال». وعلى العكس، أدى رفع الحظر عن «تيليجرام» في روسيا في حزيران من عام ٢٠٢٠ إلى موجات هجرة من «تيليجرام» إلى «ماتريكس» أو «Delta Chat» أو «Jabber»(٥) (رغم الانتقاد الذي وجِّهَ له من الناحية التقنية) والقرار الأخير الذي اتخذه بافل دوروف —مؤسِّس «تيليجرام»— بأن يتعاون مع حكومات عدّة لاعتراض البيانات بشكل قانوني (مثل ألمانيا). قد ترتبط أسباب موجات الهجرة أيضًا بتغييرات في تشريعات دولة أو تحوُّلات في نموذج عمل أداة معينة أو السلطة التي تديرها. على سبيل المثال، عندما باع بافل دوروف، —تحت ضغط من السلطات— حصته في شبكة «Vkontakte» ”الروسيّة“ إلى الأوليغارش الروسي عليشر عثمانوف، أصبحت المنصة أكثر تجارية وانفتاحًا على أن تتعاون مباشرة مع الشرطة، مما أدى إلى هجرة جماعية من «Vk» إلى «فيسبوك» (انظر Butcher، ٢٠١٤).
من الجدير بالذكر أن الهجرة الرقمية لا تسير وفق نمط ثابت أو خطّي، وقد تكون متعدِّدة الاتجاهات، فقد يتواجد المستخدم في مختلق الفضاءات الرقمية، ويتنقل في ”بيئة متعدِّدة الأدوات“ لأن شخصيات الفرد الرقمية ونماذج التهديد متعِّددة بطبيعتها (Casilli، ٢٠١٥؛ Ermoshina وMusiani، ٢٠١٨). قد يتواجد المستخدم على «تيليجرام» و«سيجنال» في الوقت نفسه، أو على «تويتر» و«ماستدون»، وغالبًا ما ينشر محتواه عبر منصات متعدِّدة، إمّا يدويًا أو باستخدام أدوات آلية مثل البوتّات أو الجسور (Bridges)، وذلك من أجل أن يُظهِر جوانب مختلفة من هويته الرقمية، وأن يوسِّع نطاق حضوره على الإنترنت، وأن يصل إلى جماهير مختلفة ترتبط بكل منصة، مما يساهم بدوره في إنتاج ثقافات تكنولوجيّة متعددة.
أحد أبرز الأمثلة على عملية الهجرة يرتبط بانتشار «الفيديفيرس»، المفهوم الشامل الذي ”يشير إلى البروتوكولات والخوادم والتطبيقات“ (Rozenshtein، ٢٠٢٣) التي تتيح تشغيل الشبكات الاجتماعية الاتحادية. دعامة «الفيديفيرس» الأساسية هي بروتوكول «ActivityPub»، وهو بروتوكول يمكن أن يُستَخدَم لمشاركة أنماط مختلفة من محتوى وسائل التواصل الاجتماعي، مثل النصوص والصور ومقاطع الفيديو، مما يسمح بالتشغيل البينيّّ لخدمات متنوعة ضمن «الفيديفيرس». يقدم «الفيديفيرس» بدائل لمنصات التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية: «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام» و«يوتيوب»، بالإضافة إلى نظائرها مفتوحة المصدر والاتحادية، مثل «فرينديكا» و«بليروما» و«ماستدون» للتواصل الاجتماعي والتدوين المصغّر، و«بيكسلفِد» لمشاركة الصور، و«بيرتيوب» لبثّ الفيديو. يمكن لجميع هذه الخدمات أن ”تتواصل مع بعضها البعض“، وربما أن تلبّي احتياجات المستخدمين المتعدِّدة فيما يتعلق بالأدوات والأشكال المختلفة من المحتوى.
في أعمالنا السابقة (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢٢، ص: ٦٦–٨٨)، عملنا على تحليل الاتحادية بوصفها تجربة بنيوية واجتماعية يسعى باستخدامها المطوّرون إلى إيجاد توازن بين درجة الأمان وسهولة الاستخدام، بما يعالج في الوقت نفسه مخاوف عملية و”أيديولوجية“، مثل توزيع المسؤوليات على أصحاب المصلحة، وتوفير أنماط محدَّدة من الحرية الرقمية، وتمكين المستخدمين من اختيار درجة الاستقلالية التي يرغبون بها داخل النظام. اقترحنا إطارًا لتنظيم الاتحادية وتصوُّرها بصورة أفضل، سمّيناه ”العناصر الأربعة للاتحادية“. يتضمن هذا الإطار:
- المجتمع: تقوم الحوكمة الذاتية للاتحادية وتطوُّر مشاريعها على إشراك مجموعة واسعة من العملاء ومزوّدي الخدمات في تبنّي بروتوكولات أو مكتبات مفتوحة جديدة؛ مما يتطلَّب قدرًا من التواصل والتنسيق بين المشاريع المختلفة.
- التوافقية: يتطلَّب هذا العنصر جذب عدد كبير من المطوِّرين لتنفيذ ونشر حلول معيَّنة وضمان بقاء المستخدمين؛ ويشمل ذلك الحفاظ على «التوافقية الرجعية» (Backwards Compatibility)، بما يسمح بالانتقال السلس من البروتوكولات القديمة إلى الأحدث منها، دون أن تتعرَّض حسابات بعض العملاء إلى الحظر أو المقاطعة.
- التخصيص: القدرة على إدارة مجموعات محدودة من المستخدمين وتطبيقات محليّة مخصَّصة، وتكييفها بما يتناسب مع احتياجات المجتمعات، دون خسارة إمكانية التفاعل مع الشبكات الأوسع؛ والذي يُصبح تحدّيًا في حال أخفق الفريق في منهجة توثيق جميع إجراءات البروتوكول المختلفة.
- العناية: تعتمد استقرارية الأنظمة الاتحادية على قدرة استقطاب مشرفين جدد بفعالية، وهذا يستدعي تطوير توثيق شامل، وإعداد أدلة لـ”الممارسات الفضلى“، ونقل المعرفة التقنية إلى مديري الأنظمة المستقبليين.
سنعيد مناقشة ”العناصر الأربعة“ في خاتمة مقالتنا، انطلاقًا من تركيزها المحدد على قضايا الإشراف على المحتوى.
سننتقل الآن إلى الجزء التجريبي من الدراسة بمناقشة ثلاث حالات: حوكمة الإشراف الاتحادي على «ماستدون»؛ ومبدأ ”حيادية البروتوكول“ كما طُبِّق في «ماتريكس»؛ والجدل الذي رافق إطلاق «ميتا» لمنصة التدوين المصغّر «ثريدز». إلى أي مدى تُساهِم إجراءات الإشراف على المحتوى —التي يضعها ويحافظ عليها مطوّرو ومشرفو المنصات الاتحادية— في تشكيل ”فضاءات أكثر أمانًا منذ التصميم“؟ هذا هو السؤال المحوري الذي يجمع الدراسات الثلاث.
دراسة الحالة الأولى: «ماستدون»، أو تحديات الإشراف على محتوى المنصات الاتحادية
أُطلِقت المنصة الاتحادية للتدوين المصغَّر «ماستدون» في أكتوبر ٢٠١٦ على يد يوجين روشكو، وهو مطوِّر برمجيّات ألماني كان يبلغ من العمر أربعًا وعشرين سنة عندما أطلقها. ومع ذلك، ظلّت الأداة غير شائعة نسبيًا خلال الأشهر الستة الأولى من إطلاقها، حيث لم يتجاوز عدد مستخدميها آنذاك ٢٠,٠٠٠ مستخدم. حدثت الهجرة الجماعية الأولى بشكل مفاجئ في نيسان من عام ٢٠١٧، إذ ارتفع العدد في غضون أسبوعين إلى نحو ٣٦٥,٠٠٠ مستخدم. كان من بين أسباب هذه الهجرة قانون «SESTA» الأمريكي المثير للجدل (قانون وقف تمكين الإتجار بالجنس)، والذي سمح بتعليق حسابات العاملين في مجال الجنس على «تويتر» (Davisson وAlati، ٢٠٢٤). وأشار أحد المشاركين في مقابلاتنا إلى سبب آخر للهجرة؛ والذي تمثَّل بـ”زيادة خطاب الكراهية على «تويتر» بسبب مؤيّدي ترامب، بالإضافة إلى الضجيج المحيط بالأخبار الكاذبة، إذ بات من المستحيل أن تثق بأي أحد“ (مقابلة، مشرف نمساوي على منصة «ماستدون»(٦)). في ذلك الوقت، حظيت «ماستدون» باهتمام إعلامي واسع، وبعد بضعة أسابيع، وصلت أول نسخة تشغيلية أنشأها روشكو («Mastodon.social») إلى أقصى حدّ من المستخدمين وتوقَّفت عن استقبال مستخدمين جدد. بدأت نسخ تشغيلية جديدة بالنمو بسرعة، ممّا أدّى إلى بروز قضايا حوكمة لا تقتصر على «ماستدون» تحديدًا، بل تُعَدّ شائعة في خدمات الاتصال الاتحادية عمومًا؛ وعلى رأسها مسألة تحديد من هو المسؤول عن المحتوى الذي ينشره المستخدمون وآليات فرض هذه المسؤولية، فضلًا عن حوكمة التفرعات (Forks) والتطبيقات المتعدِّدة.
يقوم مبدأ الحوكمة الأساسي في منظومة «ماستدون» على أن النسخ التشغيلية تُدار من قِبل أفراد أو جمعيات، ويتواصل المستخدمون مع مديري هذه النسخ بطريقة أكثر مباشرة وشخصية مقارنةً بما هو عليه الحال في «تويتر».
”يستطيع المستخدمون أن يُظهِروا عدم الرضا عبر ترك نسخة تشغيلية لا تروق لهم والانتقال إلى أخرى، إذا لم تعجبهم طريقة الإدارة. أو يمكنهم أن ينخرطوا في الحياة اليومية لتلك النسخة، وأن يقترحوا تحسينات، بل وأن يطالبوا بتعديلات على بعض المعايير التقنية، مثل عدد الأحرف المسموح بها في المنشورات“ (مقابلة، مشرف نمساوي على منصة «ماستدون»).
يعتمد تشغيل نسخ «ماستدون» على طبقات مترابطة عِدّة، تبدأ من بروتوكول «ActivityPub»، والبنية التحتية للخوادم، وكود البرمجيات، وصولًا إلى مدوّنة قواعد السلوك التي تضبط سلوك المستخدمين ضمن النسخة، وتحدِّد قيمها، والمجالات التي تتضمنها، وأنواع المحتوى المقبول والمرفوض.
حظيت «ماستدون» باحتفاء من بعض الناس بوصفها ”تويتر خالية من النازيين“(٧)، وكمساحة تَعِد مستخدميها بـ”فضاءات أكثر أمانًا“ بفضل اعتمادها على نسخ تشغيلية تُدار يدويًا، وتُبقي على درجة من الخصوصية المجتمعية. وقد شكّل ذلك نموذجًا لحوكمة تتَّسم بدرجة من الشفافية، إذ يمكن الوصول إلى المشرفين بسهولة. ومع ذلك، تغيَّر هذا المشهد في عام ٢٠١٩، بعد أن قامت «غو دادِي» و«أبل» و«غوغل» بحظر منصة التدوين المصغّر اليمينية «غاب». تخلَّت «غاب» عن كودها واعتمدت على الكود المصدري لـ«ماستدون»، ممّا أدّى إلى صدور أول بيان سياسي(٩) من الفريق الأساسي الذي يدير «ماستدون»، أدانوا فيه استخدام كودهم على يد أفراد وجماعات يمينية كوسيلة لتفادي الحظر من شركات التكنولوجيا العملاقة. في نهاية المطاف، أقرّ روشكو(٩) بأنّه لا يملك أي سيطرة على الوضع، نظرًا للطبيعة الاتحادية لمنصة «ماستدون». ولكن، وجد مجتمع «ماستدون» وسيلة للتعامل مع هذا الاستخدام المسيء لمنصّته، بتوظيف آلية مضمّنة في بنية «ماستدون» نفسها؛ إذ حُجِبَت العديد من النسخ التشغيلية االيمينية عبر نظام اسماء النطاقات (DNS)؛ فعُزِلَت أو ”فُكِّكَت اتحاديتها“. أُنشِئ حساب خاص باسم «Isolate Gab»، وانتشرت «هاشتاغات» تدعو أكبر عدد ممكن من المشرفين للانضمام إلى ”حركة العزل“. مع أنّه شكّل ردًا فعّالًا، إلّا أن هذا الإجراء لم يشكِّل جزءًا من البنية البرمجية لـ«ماستدون»، بل اتخذ مشرفو النسخ التشغيلية قرارات فردية بتطبيقه حسب الحاجة(١٠). ومن الجدير بالذكر أنّه، نتيجة لذلك، عدَّل مطوّرو «غاب» كود «ماستدون»(١١) لإزالة توافقه مع بروتوكول «ActivityPub» وتعطيل إمكانيات الاتحادية مع «ماستدون». وقد وُصِف هذا بـ”نصر“ من المشرفين والمستخدمين الذين شاركوا في حملة IsolateGab#(١٢).
توفِّر البنية الاتحادية لـ«ماستدون» تجربة مختلفة لما يقدّمه «إكس» (المعروف سابقًا بـ«تويتر»). لدى المستخدم مجموعة من الخيارات، من بينها وضع «فلاتر» مخصَّصة للمحتوى الذي لا يرغب في رؤيته ضمن صفحته. وتتَّسم صفحات المحتوى بطابع متعدِّد الطبقات، إذ أنّها لا تقتصر على «التويتات المصغَّرة» (Toots) التي ينشرها مستخدمو النسخة التشغيلية المحليّة، بل أيضًا منشورات من نسخ تشغيلية أخرى (أي في إطار ”الاتحادية“). يمكننا أن نقارن ”تفكيك الاتحادية“ (Unfederation) بـ”إلغاء المتابعة“ (Unfollowing) على «إكس»، لكن ”تفكيك الاتحادية“ يحدث على مستوى الخادم، وعادةً ما يتخِّذ هذا القرار مشرف النسخة بالاتفاق مع مستخدميه.
تُقدِّم الشبكات الاجتماعية الاتحادية أشكالًا جديدة من الإشراف على المحتوى، وتنظيم السمعة، وصيانة البنية التحتية، ومشاركة المجتمعية. بينما تُقدَّر نسبة المشرفين إلى المستخدمين في «فيسبوك» بنحو ٧,٥٠٠ مشرف مقابل ٢ مليار مستخدم، قد تتراوح النسبة في «ماستدون» بين ١ إلى ٥٠٠ في بعض النسخ التشغيلية، و١ إلى ٥,٠٠٠ في نسخ أخرى (Lawson، ٢٠١٨). وعندما تكون النسبة أقرب إلى ١ إلى ٥٠٠، قد تكون المراقبة اليدوية إلى جانب بلاغات المستخدمين كافية للتعامل مع المحتوى غير المرغوب؛ أمّا في حالة النسبة الأعلى، تزداد الحاجة إلى تحسينات إضافية. بالتالي، ترتبط مشكلة الإشراف بالنمو السريع وغير المتوقع لبعض النسخ التشغيلية، ممّا يؤدي إلى تمركز اجتماعي (Social Centralization) ونقص في القدرة على المتابعة من المشرف أو المشرفين.
”بصفتي مشرفًا، قد أتلقى بريدًا إلكترونيًا يُعلمني بوجود بلاغ جديد أثناء إجازتي، وأنا أستخدم هاتفي المحمول المتَّصل بالشبكة اللاسلكية في منطقة ريفية، وقد أحاول معالجة البلاغ باستخدام شاشة صغيرة للغاية بأصابعي البشرية المرتجفة. أو قد يصلني البلاغ وأنا نائم، فلن أستطيع أن أعالِج البلاغ إلّا بعد مرور ثماني ساعات على الأقل“ (Nolan Lawson، مشرف نسخة تشغيلية من «ماستدون»)
The moderator interface for handling reports in a Mastodon instance
الشكل ١: واجهة المشرف لمعالجة البلاغات في نسخة تشغيلية من «ماستدون».
إحدى المحاولات لمعالجة هذا التحدي تتمثل في أتمتة عملية الإشراف بتطوير بوتّات مخصَّصة لذلك. وتتمثَّل استراتيجية إشراف أخرى في إنشاء أنظمة نسبية لتقييم سمعة المستخدمين وآليات لامركزية للتحقُّق من الهوية. الأنظمة النسبية لتقييم السمعة هي تلك التي ”تختلف تبعًا لموقع المستخدم داخل الشبكة“؛ إذ يتمكَّن أي شخص داخل الشبكة من ”أن يُصدِر تقييمات شخصية للجهات أو المحتوى، تُنشَر ضمن ما يُعرَف بتغذية السمعة (Reputation Feed). يمكن للمستخدمين أن يدمجوا هذه التغذيات بأي طريقة يرونها مناسبة لإنشاء نظامهم الخاص لتقييم السمعة“ (Graber، ٢٠٢١، بلا صفحات). ويفترض هذا أنّ «ماستدون»، على عكس «تويتر» أو «فيسبوك»، لا يتطلب التحقُّق من الهوية أو تقديم بيانات شخصية؛ فلا يُطلب من المستخدمين أرقام هواتف أو أسماء حقيقية.
وأخيرًا، من أحدث الاقتراحات المطروحة للإشراف على المحتوى في «ماستدون»؛ التعلم الآلي. دعا مؤسِّس «ماستدون» إلى طرح أفكار بشأن حلول تعتمد على التعلم الآلي لمعالجة تحديات الإشراف على المحتوى. ومع ذلك، أبدى مجتمع الـ«فيديفيرس» تشكُّكًا واضحًا تجاه جميع أشكال أدوات الإشراف الآلي. وإن وُجدَت أدوات من هذا النوع، فيجب أن تخصَّص لكل نسخة تشغيلية على حدة، لا أن تعمل عبر النسخ المختلفة، وإلّا فستصبح المنصة مُمركَزة؛ لكن ما يترتّب على ذلك فيما يخص التعلم الآلي هو أن مجموعات البيانات المتوفرة للتدريب ستكون صغيرة نسبيًا، مما يقلّل من فعالية وصحة هذه الأساليب. علاوةً على ذلك، تنصّ أدلّة الإشراف في «ماستدون» بوضوح على أن ”الإشراف في ماستدون يُطبّق دائمًا محليًا؛ أي على الخادم المعنيّ تحديدًا. لا يمكن لمشرف أو مدير على خادم معيّن أن يؤثِّر على مستخدم في خادم آخر؛ يمكنه فقط أن يؤثِّر على النسخة المحلية لذلك المستخدم على خادمه الخاص“(١٣).
لذلك، لا يزال الإشراف المجتمعي حسب الحاجة يُفضَّل على أي ميزة إشرافية ”مصمَّمة سلفًا“؛ ففي هذا النهج، يُطرَح دائمًا على المستخدم سؤال حول دوافعه لاستخدام نسخة تشغيلية معيّنة. لا يزال يرى بعض المشرفين الذين قابلناهم أن هذا النهج هو الأداة الأنسب في نهاية المطاف للإشراف على نسخة تشغيلية؛ من المثير للاهتمام، بل والمفارقة أنّ مشرفي منصة صُمِّمت للإشراف كجزء من بنيتها التقنية يفضلون في النهاية إجراءات بشرية ونوعية لضبط المحتوى.
Standard question asked to a user wishing to join a Mastodon instance
الشكل ٢: سؤال نموذجي يُطرَح على مستخدم عند رغبته في الانضمام إلى نسخة تشغيلية من «ماستدون».
ترجمة الصورة: [لماذا تريد الانضمام؟ سيساعدنا هذا على مراجعة طلبك بالانضمام]
يُظهِر تحليلنا أنه، رغم أن اللامركزية التقنية تتيح بلا شك إمكانيات معينة لممارسات مؤتمتة للإشراف، فإنّ مشرفي النسخ التشغيلية والقاعدة النشطة من المستخدمين يواصلون انخراطهم العميق في صياغة قرارات حوكمة الـ«فيديفيرس». يشمل ذلك تطوير وصيانة مدونات قواعد السلوك لكل نسخة، واتخاذ قرارات رئيسية حول الربط أو عدم الربط مع نسخ أو خوادم أخرى. وعادةً ما تستند هذه القرارات إلى القيم التي تقوم عليها تلك النسخ.
تُناقَش قضايا الإشراف غالبًا في مؤتمرات مخصَّصة تُعقَد عبر الإنترنت، حيث يتمكَّن مشرفو النسخ التشغيلية من اتخاذ قرارات حاسمة بشأن مستقبل الـ«فيديفيرس»، كما حدث في المنتدى الرقمي حول الحوكمة والإشراف على «ماستدون» بعد تدفُّق المستخدمين اليمينيين إلى المنصة إثر طرد ترامب من «تويتر»(١٤). بفضل مقابلاتنا مع مشرفي النسخ التشغيلية والمستخدمين النشطين، إلى جانب البحث المكتبي الذي رصد نقاشات الإشراف على المحتوى في «ماستدون»، تمكّنا من أن نُحلِّل ممارسات الإشراف الفعلية، وأن نستكشف الدور الذي تلعبه كل من التكنولوجيا والمجتمع في الحفاظ على سمعة «ماستدون» بوصفه ”فضاءً أكثر أمانًا“ على الإنترنت.
من المؤكَّد أن هجمات التحرُّش الجماعي على نطاق واسع ممكنة في العديد من السياقات خارج الـ«فيديفيرس» أيضًا، إلّا أنها، كما أشار نولان لوسون —مشرف بارز على نسخة تشغيلية من «ماستدون»— في منشور له عام ٢٠١٨، إلى أنّه ”قد تُنفَّذ هجمات التحرُّش بصورة أسهل هناك (على منصات اتحادية) مقارنةً بالأنظمة المركزية مثل «تويتر» أو «فيسبوك»، حيث يمكن للأدوات المؤتمتة أن تساعد المشرفين في رصد الهجمات الجماعية لحظة وقوعها“، فاتحًا بذلك نقاشًا حول مفارقات الإشراف في «ماستدون»(١٥).
من جهة، عانت هذا المنصة الاتحادية للتدوين المصغَّر من التمركُز الاجتماعي لأنها اعتمدَت على مجموعة صغيرة من المدراء والمشرفين، وهو جانب أبرزه أصحاب النسخ التشغيلية في مقابلاتنا؛ على سبيل المثال، اشتكى مشرف روسي من عدم قدرته على الاستمرار في المحافظة على النسخة لأنه كان المشرف الوحيد، وقد توقفت هذه النسخة عن العمل لاحقًا. وقد اقتُرِح حلّ في منتدى «Social Web Incubator» التابع لـ«W3»(١٦)، يقضي بتحديد حجم النسخ التشغيلية على مستوى الـ«فيديفيرس» ككل، بهدف تقليص نسبة المستخدمين إلى المدراء، وبالتالي تخفيف العبء الواقع على كاهل المشرفين. ومع ذلك، واجه هذا النوع من القرارات المُمركَزة —على مستوى الـ«فيديفيرس»— انتقادات في مقابلاتنا، إذ اعتُبِرَت ”تقييدًا لحرية الـ«فيديفيرس»“.
من ناحية أخرى، وجَّه بعض المشاركين في المقابلات انتقادات لنظام التبليغ والإشراف في «ماستدون»، بسبب ضعف جودة واجهة المستخدم، إذ إنها تفتقر إلى الأتمتة وتعتمد بشكل كبير على المشرفين لاتخاذ قرارات حاسمة، مثل الإبلاغ عن المحتوى غير المرغوب فيه، وتحديد ما إذا كان يجب تعليق الحسابات بصورة مؤقتة أو دائمة. أفاد بعض المدراء بأن ”واجهة المستخدِم المُربِكة“ قد تؤدي أحيانًا إلى حذف حسابات عن غير قصد. دفعت هذه النقاشات داخل مجتمع «ماستدون» المطوِّرين إلى إدخال واجهة برمجة التطبيقات (API) بين عامي ٢٠١٨–٢٠١٩، بهدف تحسين سهولة استخدام أدوات الإشراف لدى مشرفي النسخ التشغيلية، ممّا سمح لهم بالاستعانة بأدوات إشراف خارجية، وبأتمتة عمليات التصفية بالاعتماد على قوائم مخصَّصة من الكلمات المفتاحية تبقى محصورة ضمن النسخة نفسها.
دراسة الحالة الثانية: Matrix.org و”حيادية البروتوكول“
تُعد «Matrix.org» منظومة اتحادية للمراسلة توفِّر تشفيرًا متقدمًا ومتكاملًا بين الأطراف، يستند إلى بروتوكول «سيجنال». الهدف الرئيسي للمشروع هو إنشاء هيكل قادر على معالجة مشكلة التشغيل البينيّّ كليًا. يُنظَر إلى هذا التشغيل البينيّّ بوصفه ميزةً تنافسيةً مهمة وعامل جذب رئيسيّ للمستخدمين (Hodgson، ٢٠٢٣؛ Hendriks، ٢٠٢٠؛ انظر أيضًا Weinberger، ٢٠١٤ — مقال صحفي متخصِّص يُجسِّد هذا التوجه).
لطالما ناقش الناس التحديات المتعلقة بالإشراف وحرية التعبير في سياق منصات التواصل الاجتماعي، التي تُعرَف على أنّها ساحات للنقاش العام ويجب أن تُنظَّم. وعلى النقيض من ذلك، نادرًا ما طُرِحَت تطبيقات المراسلة كمواضيع تستدعي الإشراف، إذ كان يُنظَر إليها تقليديًا كبيئات مغلقة أو معزولة تدور فيها المحادثات ضمن سياق خاص ومحميّ. تشير دراستنا إلى أن بعض تطبيقات المراسلة الحديثة يمكن أن يُنظَر إليها كأنظمة هجينة تجمع بين شبكات التواصل الاجتماعي وأدوات الاتصال الخاصة، إذ توفِّر ميزات مثل غرف الدردشة أو مجموعات المحادثة (كما في «ماتريكس/إيليمينت») التي يمكن البحث عنها والانضمام إليها من خارج التطبيق.
يُعَدّ «تيليجرام» مثالًا على مثل هذا الأداة الهجينة التي توحِّد سمات المراسلة والشبكات الاجتماعية. لكنها مُمركَزة وتقع خارج نطاق دراستنا التي تُركِّز فقط على التطبيقات الاتحادية. تُشكِّل «ماتريكس/إيليمينت» حالة بارزة من هذا النموذج الهجين، إذ توفِّر خادمًا عامًا (مما يضيف قدرًا من المركزية)، إلى جانب قائمة عامة بالغرف والقنوات التي يمكن للناس طلب الانضمام إليها. وجود مثل هذه القوائم العامة وإمكانية اكتشافها من قِبل المستخدمين الخارجيين يجعل من «ماتريكس» مساحة شبه عامة، وهو ما يفرض حاجة إلى الإشراف تنبع من مجتمع المستخدمين نفسه، ومن الجهات التنظيمية، ومتاجر التطبيقات. كما بيّنت مقابلاتنا مع فريق «ماتريكس» منذ انطلاق المشروع؛ إنّه لم يتبنَّ موقفًا سياسيًا أو أيديولوجيًا واضحًا على عكس «ماستدون»، ولم يكن هدفه أن يوفِّر البرمجيّات لفئات محددة تحمل أجندات سياسية أو تنخرط في الساحات السياسية، مثل الناشطين. يتجسد هذا الموقف —الذي يمكن وصفه بـ«التعددية الليبرالية»— في هيكل بناء النظام وفي تنوُّع قاعدة مستخدميه. من ناحية هيكل البناء، يُعدّ نظامًا اتحاديًا يربط بين طيف واسع من أدوات المراسلة المختلفة، ممّا يمنح المستخدمين حرية الاحتفاظ بالواجهات المألوفة لتطبيقاتهم السابقة، بالإضافة إلى القدرة على التواصل مع الآخرين. ومن ناحية تنوُّع المستخدمين، تشمل «ماتريكس» طيفًا واسعًا من غرف الدردشة التي تتناول مواضيع شتّى، بدءًا من التشفير والبرمجيات مفتوحة المصدر، والعملات المشفّرة، واللامركزية، وصولًا إلى الدعم النفسي، و«الفرويين»، والثقافات الفرعية ومجتمعات المعجبين، فضلًا عن المجموعات اليسارية وغرف المحادثة لمؤيدي «دونالد ترامب» اليمينيين. لا يزال التحديان الأساسيان اللذان يواجهان «ماتريكس» هما التعامل مع الرسائل المزعجة (Spam) والحفاظ على نظام لامركزي لتقييم السمعة. وهما مسألتان —بحسب مؤسسي «ماتريكس»— لا تزالان قيد البحث والتطوير.
أثناء مقابلتنا مع أحد مؤسسي «ماتريكس»، ماثيو هودجسون، عام ٢٠١٧، طُرِحَت أنظمة الإشراف وتقييم السمعة كجزء من التحديات المحتملة التي ينبغي أن تُعالَج في مراحل التطوير المستقبلية. في ذلك الوقت، كان يميل موقف هودجسون إلى الشمولية الراديكالية وحرية التعبير المطلقة. ردًا على سؤالنا حول قاعدة الجمهور التي تستهدفها «ماتريكس»، أشار هودجسون إلى عدم قدرته على معرفة كل ما يجري داخل الغرف والخوادم على شبكة «ماتريكس»، نظرًا لطبيعتها الاتحادية ومصدرها المفتوح. وعلى الرغم من علمه بأنّ ”بعض اليمينيين من أنصار نظرية مؤامرة «بيتزا غيت» يستخدمونه“ (المصدر)، فقد عارض بشدّة فكرة وجود دليل رئيسي يضمّ جميع الخوادم أو إدخال أبواب خلفية من أي نوع؛ فقال:
”نرفض بشكل قاطع ممارسات مثل الإساءة للأطفال أو الإرهاب أو الفاشية، ولم نصمِّم «ماتريكس» لتمكين هذه الممارسات بأي شكل من الأشكال. ومع ذلك، محاولة محاربة الإساءة عبر إنشاء أبواب خلفية هو —للأسف— ممارسة خاطئة جوهريًا“. (Matthew Hodgson، الشريك المؤسس لـ«ماتريكس»، في تدوينة على «Matrix.org»، عام٢٠٢٠ (١٧))
ومع ذلك، عام ٢٠٢١، وبعد سنوات من مقابلتنا مع هودجسون، تعرّض تطبيق «إيليمينت» —أحد تطبيقات «ماتريكس»— للحظر من قِبل خدمة التوزيع الرقمي «غوغل بلاي»، وذلك بعدما اكتشفت بوتّات «غوغل بلاي» بعض ”المحتوى المسيء“ على الشبكة. نتيجة لذلك، أصبح الإشراف مسألة عاجلة. استجابةً لذلك، طوّرت «ماتريكس» بوتًّا يُدعى «Mjolnir»، يُستخدَم في الحظر والحذف ومكافحة الرسائل المزعجة وإغلاق الغرف، إلى جانب أنشطة إشرافية أخرى. كما وفّر نظامًا نسبيًا لتقييم السمعة (يُنشر على شكل ”تغذية للسمعة“)، يتيح لأي مستخدم أن يُصدِر تقييمات شخصية للمستخدمين أو الخوادم أو الغرف أو الرسائل. يجب إعداد بوتّ ”Mjolnir“ وتشغيله على أيدي مديري الخوادم باستخدام بنية تحتية مخصَّصة. ويمكنه أن يحظر المستخدمين، وأن يحذِف الرسائل، وأن يُنفِّذ أشكال أخرى من الإشراف بناءً على الإعداد المرغوب. إحدى الميزات المهمة في «Mjolnir» هي حماية المشرفين الأفراد من الممارسات الانتقامية؛ إذ تُنسَب إجراءات الحظر أو حذف الرسائل أو تعديلها إلى مُعرِّف البوتّ (Bot ID)، لا إلى حسابات المشرفين أنفسهم، مما يحدّ من احتمال الانتقام المباشر بحقهم بسبب قراراتهم الإشرافية.
يُظهِر تحليلنا أنه، في هذا السياق التقني-الاجتماعي المتغيِّر، اختارت «ماتريكس» أن تعتمِد ما يُعرَف بـ”حيادية البروتوكول“، أي الامتناع عن فرض أي شكل من أشكال الإشراف الآلي على مستوى البروتوكول نفسه. وفي التدوينة المذكورة أعلاه، يقول ماثيو هودجسون:
”ينبغي أن يكون موقف البروتوكول في هذا السياق محايدًا؛ فليست من مهامه أن يحدِّد ما يُعتبَر محتوى غير مرغوب فيه لأي جهة معيَّنة، بل يجب أن يمنح هذه الجهات القدرة على أن تتَّخذ قراراتها بنفسها(١٨)“.
بدلًا من دمج الإشراف ضمن البروتوكولات نفسها، تقترح «ماتريكس» استخدام ”أدلّة سياسات الإشراف“ أو ”قوائم الحظر“، وهي برامج نصيّة بسيطة تُخزَّن على شكل «حالات الغرف» (Room-states)، أي ملفات إعداد تُحدِّد سياسات المحتوى المُعتمَدة. يمكن مشاركة هذه البرامج النصيّة عبر الغرف والخوادم.
Example of a room state
الشكل ٣: مثال على حالة غرفة.
تتوافق فكرة حيادية بروتوكول «ماتريكس» مع موقف «ماستدون» من الإشراف القائم على التعلم الآلي المبيَّن أعلاه.
يبدو أن الهدف الرئيسي الحالي لـ«ماتريكس/إيليمينت» هو التقليل من انتشار المعلومات المضلِّلة والرسائل المزعجة، ويُحقَّق ذلك بدمج الإشراف الاجتماعي والتقني على يد مديري الخوادم أو النسخ. يحثّ فريق «ماتريكس» مستخدميهم على إنشاء خوادمهم الخاصة بدلًا من الاعتماد على النسخة المركزية «matrix.org»، إذ يمكن الإشراف على المحتوى بشكل أفضل على خادم مستقل. قدرات بوتّ «Mjolnir» في الإعانة أثناء عملية الإشراف على المحتوى تعتمد على مديري الخوادم فقط، لأنه لا يُدار مركزيًا تحت إشراف فريق «matrix.org» الرسمي بل يجب أن يُنشَر وأن يُشغَّل بشكل مستقل. لذلك، يُعَدّ الإشراف في منصة «ماتريكس» ممارسة لامركزية تعتمد على المبادئ المجتمعية والتعديلات التقنية للأدوات الحالية. يأمل فريق «ماتريكس» أن يتمكَّن من معالجة هذه المشكلة بإنشاء نظام لتقييم السمعة، ويسعى لإيجاد طريقة تُمكِّن المستخدمين من تصفية المحتوى عبر تطوير نظام «فلاتر» مفتوح وقابل للتعديل. أصدرت «ماتريكس» عام ٢٠٢٠ نسخة تجريبية أولية تعتمد على شبكة الندّ للندّ، تهدف إلى تحقيق الاستقلال عن اتصالات الإنترنت التي يقدِّمها مزودو خدمات الاتصالات،.بوصفه مشروعًا جانبيًا يهدف إلى التخفيف من الرقابة الحكومية، وأُنشئ استجابةً لخطر قَطْع الإنترنت المتزايد في المناطق غير المستقِرّة سياسيًا مثل بيلاروسيا وإيران وقرغيزستان وغيرها، لكن هذا المشروع لا يزال قيد التطوير.
دراسة الحالة الثالثة: الجدل المحيط بـ”ثريدز“
في أيار من عام ٢٠٢٣، أطلقت «ميتا» منصتها للتدوين المصغّر «ثريدز»(١٩) ردًّا على الأزمة الأعنف في تاريخ منصة «تويتر»، بعدما استحوذ إيلون ماسك عليها وغيّر اسمها إلى «إكس». بالتزامن مع هذا الحدث، شوهدت أهم موجة هجرة من «إكس» إلى «ماستدون» بين عامي ٢٠٢٢ و٢٠٢٣، تلَتْها موجة هجرة أخرى من «إكس» إلى «بلو سكاي» في ٢٠٢٤. يؤكِّد هذا مرة أخرى النقطة التي ذكرناها سابقًا في المقالة، بأنّ المنصات الاجتماعية ومنصات التدوين المصغَّر تمر بلحظات نجاح هائلة وحالات تراجع أهول، بوصفها أدوات تقنية وساحات للنقاش العام، ولا ينبغي أن تُعتَبَر ثقة المستخدمين أمرًا مُسلَّمًا به أبدًا.
Evolution of active Mastodon users following major events in Twitter’s governance after Elon Musk’s acquisition
الشكل ٤: تطوُّر قاعدة المستخدِمين النشطين على منصة «ماستدون» بعد الأحداث الجسيمة على منصة «تويتر» إثر استحواذ إيلون ماسك عليها. المصدر: Bastian، ٢٠٢٢.
أحدثت وعود «ميتا» بتطبيق بروتوكول «ActivityPub» انقسامًا في مجتمع «ماستدون»، وانتشرت شائعات حول مفاوضات خلف الكواليس بين ممثلي «ثريدز» ومديري النسخ الشهيرة ضمن «الفيديفيرس».
أُطلِقت حركة fedipact# عبر صفحة ويب مخصَّصة(٢٠) تضمَّنت بيانًا تعريفيًا ومجموعة متنامية من مشرفي النسخ التشغيلية الذين وقَّعوا اتفاقًا بعدم إقامة علاقات اتحادية مع النسخ التابعة لمنصة «ثريدز». واعتبارًا من آذار ٢٠٢٤، ضمَّت القائمة ٦٨٢ توقيعًا من مشرفي نسخ تشغيلية، وقد استَخدَم «الهاشتاغ» ٧٫٤٩٪ من إجمالي المستخدمين النشطين على «ماستدون»(٢١).
تشير صاحبة مبادرة fedipact# —المُستخدِمة vantablack@— إلى أن الدافع الأساسي لحملتها ضد «ثريدز» يرتبط بنهج المنصة الإشكالي في الإشراف على المحتوى.
”خلاصة المسألة —من وجهة نظري— أنّ «ميتا» لن تُشرِف على محتواها بشكل ملائم. ولو كانت نسخة تشغيلية مختلفة، لكان مصيرها الفصل الفوري نظرًا لما أسهمت في تعزيزه، وما تغاضت عنه، وما سمحت بوجوده على منصتها“.
نظرًا لهيكل «ماستدون» والخدمات التي تعتمد على بروتوكول «ActivityPub»، فإنّ الاتحاد مع «ثريدز» يعني أنّ المحتوى الضارّ الذي قد يصدُر عن مستخدمي «ثريدز» سيظهر تلقائيًا في صفحات محتوى مستخدمي الـ«فيديفيرس». افترض مؤسسو fedipact# أن منصة «ثريدز» تُشكِّل تهديدًا فعليًا للقيَم التي تميِّز «الفيديفيرس»، وقد تُقوِّض سمعته بوصفه ”فضاءً آمنًا“.
Threads is perceived as a threat by vulnerable groups
الشكل ٥: ترى المجموعات المستضعَفة تهديدًا مباشرًا لسلامتها الرقمية في «ثريدز».
المصدر: FediPact@tech.lgbt (٢٠٢٥).
LGBTQIA+ and Tech. https://tech.lgbt/@FediPact/111634849265490496
ترجمة النص
[⚠️ تم النقل إلى FediPact@cyberpunk.lol ⚠️
@FediPact
هذا هو السبب الذي يُغضِب الناس من فكرة الاتحاد مع «ثريدز».
لقد سئمنا من فقدان المساحات الآمنة التي بنيناها —ملاذاتنا من رهاب المثلية— والتي انتزِعت منّا بالقوة.
نحن الكويريون، والمنبوذون، و«غريبو الأطوار»، نحن من أنشأنا هذه الشبكة اللعينة. نحن من وضعنا الأساس لوجودها. والآن تأتون لتقولوا إننا لا نُحتسَب، وأنّ علينا ببساطة أن نتنازل عن كل شيء لصالح شركة عملاقة شريرة؟! تبًا لذلك.
لن نستسلم دون أن نقاوِم.]
#FediPact #threads #meta
بعد إعلان مارك زوكربيرغ في ٧ كانون الثاني ٢٠٢٥ عن تغييرات كبيرة في سياسات الإشراف على المحتوى ضمن خدمات «ميتا»، اتخذت أكبر نسخة تشغيلية على «ماستدون» («Mastodon.social») قرارًا مهمًا بفكّ الاتحاد مع نسخة «Threads.net» وحجب نطاق «threads.net» على مستوى نظام أسماء النطاقات (DNS). ”تتعارض سياسة «ميتا» الجديدة مع الكثير من مبادئنا، ولن نسمح بأن تمتد آثارها إلى «الفيديفيرس»(٢٢).
أظهر تحليلنا للجدل حول fedipact# وجود ثلاثة أنماط رئيسية من ردود الفعل بين مشرفي النسخ التشغيلية، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة مواقف: تفاؤلية-تكنولوجيّة، ووقائية، وراديكالية.
تصف المجموعة الأولى اعتماد «ثريدز» لبروتوكول «ActivityPub» بأنه انتصار لمجتمع البرمجيات الحرة ومفتوحة المصدر، لما له من تأثير إيجابي على تعزيز اللامركزية ونشر «الفيديفيرس» على نطاق أوسع. يدافع المتفائلون بشأن التكنولوجيا عن الانفتاح الراديكالي، على عكس «الحدائق المسيَّجة» التي تفرضها منتجات «ميتا».
أما الموقف الثاني، وهو الأكثر شيوعًا، فيُعرَّف على أنه موقفٌ وقائي يسعى إلى حماية الإمكانيات والرؤية البديلة للاتحادية، ويُترجَم عمليًا إلى ”فكّ الاتحاد“ مع أي نسخة تشغيلية تمتلكها «ثريدز». تُظهِر الاستطلاعات التي أنشأها مشرفو «ماستدون» أن هذا الموقف يحظى بين ٥٠٪ و٧٠٪ من الأصوات(٢٣). يدافع الوقائيون عن رؤية معيّنة لـ«ثقافة ماستدون»، ويرون في fedipact# وسيلةً للعمل الجماعي لمجابهة ثقافة وقيم منصة احتكارية تُعارِض مع تلك الرؤية.
وأخيرًا، تذهب المجموعة الراديكالية إلى أبعد من مجرد تبنّي fedipact#، إذ اقترحت توسيع نطاق «فكّ الاتحاد» ليشمل ليس فقط «ثريدز»، بل أيضًا أي نسخة تشغيلية من «ماستدون» توافق على الاتحاد معها.
يُظهِر الجدل المتعلِّق بـ«ثريدز» أن قرار تنفيذ بروتوكول «ActivityPub» ينعكس مباشرةً على الحوكمة العامة وآليات الإشراف على المحتوى ضمن منظومة «الفيديفيرس». فاختيار بروتوكول اتحادي ينطوي على تبعات (قد تكون سلبية)، بالنسبة للاتحادية نفسها؛ إذ قد يسمح بانتشار محتوى غير مرغوب، يُنتَج على منصّة مثيرة للجدل في نظر عدد كبير من أعضاء المجتمع، ويصل هذا المحتوى إلى باقي النسَخ عبر الشبكة الاتحادية بأكملها. ومع ذلك، يطرح هذا النوع من الإشراف —الذي يُعَد فيه اختيار البروتوكول عاملًا بالغ الأهمية— سؤالًا جوهريًا حول توازن القوى ما بين مديري النسخ التشغيلية والمستخدمين الأفراد، وحق هؤلاء في الوصول إلى المعلومات وتداولها بحرِّية. استجابةً لذلك، أضافت «بيكسلفِد» —النظير الاتحادي لـ«إنستاغرام»— خيارًا يسمح للمستخدمين بأن يُفعِّلوا خاصية عرض المحتوى الصادر عن مستخدمي «ثريدز» إذا رغبوا بذلك(٢٤). كما يطرح هذا الجدل تساؤلات حول تأثير «غرفة الصدى»(٢٥) في «ماستدون»، وعلى ثقافته السياسية السائدة، وتعريفه لحرية التعبير، والقيم التي بُنِي عليها.
رغم أن بروتوكول «ActivityPub» يُمكِّن من الانفتاح واللامركزية، إلّا أن استخدامه كأداة للحَوْكمة الجماعية والإشراف على المحتوى يطرح خطرًا كبيرًا بإعادة التمركز، ويُعيد تشكيل هياكل السلطة داخل «ماستدون» وضمن منظومة «الفيديفيرس» بأكملها.
الخاتمة: التقاء ”العناصر الأربعة للاتحادية“ مع الإشراف على المحتوى
في حين أنّه من المرجَّح أن تفتح الاتحادية آفاقًا جديدة وواعدة لأساليب مبتكرة في الإشراف على المحتوى تجمع بين تنظيم المجتمع، وتوزيع المعلومات، والأدوات التقنية-الاجتماعية البديلة، فإن الهياكل التقنية التي تبدو واعدة قد تتحوّل في ظروف معيّنة إلى نقطة ضعف أو عبء، مثل إعادة التمركز (Re-centralization) حول عدد محدود من المشرفين، أو واجهات الاستخدام المعرَّضة للأخطاء، أو سلاسل التفويض الإشكالية.
في أبحاثنا السابقة حول منصّات الهياكل الاتحادية (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢٢)، قمنا بتحليل الاتحادية في ظلّ ما نسمّيه بـ”العناصر الأربعة للاتحادية“: المجتمع، والتخصيص، والتوافقية، والعناية. في الفقرات التالية، نُعيد النظر في هذه الجوانب، في ضوء تركيز هذه الورقة على الإشراف على المحتوى.
فيما يتعلق بعنصر المجتمع، فإن الحوكمة الذاتية والتقدُّم في المشاريع الاتحادية يتطلبان جهدًا مجتمعيًا كبيرًا ويعتمدان على إشراك مجموعة متنوعة من مزوِّدي الخدمات والعملاء لقبول بروتوكولات أو مكتبات مفتوحة جديدة عبر استراتيجيات لتحقيق التوافق. تُبيِّن أبحاثنا بوضوح نشوء مجتمع فاعل ومتنوّع من الجهات الفاعلة يشارك في الإنتاج الجماعي للمكوِّنات الأساسية —كالبروتوكولات والحزم والمكتبات— بهدف تهيئة البيئة الرقمية لتحتضِن البيئات الاتحادية. في هذه البيئات، يظهر الجهد المجتمعي في عدة جوانب من عمليات الإشراف على المحتوى؛ أولًا، تُبنى سمعة الخوادم والغرف بجهود جماعية وتخضع لتطور مستمر، ثم تُناقَش مدونات قواعد السلوك بانتظام. تعتمد فعالية الإشراف على مدى تفاعل مديري النسخ التشغيلية واستجابتهم للمجتمع.
أمّا فيما يتعلق بالعنصر الثاني؛ يوضِّح التخصيص كيف تتيح الاتحادية للمستخدمين قدرة الاختيار بين مزوّدي خدمات متعددين، والهجرة من خادم إلى آخر دون أن يفقدوا مخططهم الاجتماعي. تُقدِّم الهياكل الاتحادية مرونة أكبر في تخصيص الأدوات بحسب احتياجات كل مجتمع مستخدمين، دون أن تفقد هذه الأدوات القدرة على الاتصال بالشبكات الأخرى. رغم فوائدها، قد تُعقِّد هذه المرونة عملية التحكُّم في البروتوكولات الاتحادية، مما يزيد من احتمالية ظهور ثغرات أمنية. على صعيد الإشراف، يُفهَم من ذلك أن البروتوكول لا يحدِّد طريقة الإشراف على المحتوى؛ بل يترك الأمر بالكامل لكل جهة أو تطبيق بحسب ما تراه مناسبًا، وهو ما يُعرَف في «ماتريكس» بـ”حيادية البروتوكول“.
لقد حدَّدنا التوافقية وتحدياتها بوصفها ”العنصر الثالث“ من عناصر الاتحادية؛ فعلى سبيل المثال، هناك حاجة لتنفيذ ما يُعرف بـ”التوافقية الرجعية“ (Backwards Compatibility)، والتي تتيح الانتقال السلس من البروتوكولات القديمة إلى الأحدث، دون أن يؤدي ذلك إلى حظر حسابات بعض العملاء أو مقاطعتها. أمّا فيما يخص الإشراف، يعني هذا أن حلول الإشراف —بما أنها تُنفَّذ على مستوى التطبيق وليس البروتوكول— يمكن مشاركتها بين النسخ التشغيلية المختلفة، مثل «حالات الغرف» (Room-states).
أخيرًا، تُضيف الاتحادية طبقة جديدة من التعقيد إلى حوكمة أنظمة المراسلة الآمنة، إذ تُدخِل جهات فاعلة جددًا إلى المشهد، وعلى رأسها مديرو الأنظمة الذين تقع على عاتقهم مسؤولية صيانة الهياكل الاتحادية وتوسيعها؛ أي مسؤولية العناية (Denis وPontille، ٢٠١٥)، وهي ”العنصر الرابع“ والأخير ضمن العناصر الأربعة للاتحادية. تعتمد استقرارية الأنظمة الاتحادية أيضًا على استقطاب المشرفين بنجاح، مما يتطلب تطوير توثيق شامل وإعداد أدلة لـ”الممارسات الفضلى“، ونقل المعرفة التقنية إلى مديري الأنظمة المستقبليين. أما فيما يتعلق بالإشراف، فإن جانب ”العناية“ يظهر بوضوح في أنّ حلوله تُنفَّذ دون الإضرار بالبنية التحتية أو المستخدِم، مع القضاء على إمكانية إنشاء الأبواب الخلفية منذ مرحلة التصميم.
ختامًا، لا يمكن الاتكال على جهة واحدة للحفاظ على عمل الأنظمة الاتحادية بكفاءة، بما في ذلك على صعيد حوكمة الإشراف على المحتوى؛ إذ تُوزَّع مسؤولية ”العناية“ بين العديد من مديري الأنظمة والجهات الفاعلة الأخرى التي تدير النسخ التشغيلية المختلفة ضمن الاتحاد. يُشير نمو المنصات الاتحادية إلى تحوُّل نحو «فضاءات أكثر أمانًا» تُديرها المجتمعات نفسها، حيث تُمنَح سلطة أكبر للمشرفين من البشر. مع ذلك، ينبغي أن نُبقي في الحسبان أن هذا التوجه ينطوي على مخاطر جديدة لإعادة تمركز السلطة داخل الشبكات الاتحادية، وهو ما يستدعي إجراء مزيد من الأبحاث حول دور القائمين على صيانة البنية التحتية، والمديرين، والمشرفين، إلى جانب فريق مصممي البروتوكولات الأساسيين، وهي أجندة بحثية بدأت هذه الورقة بطرحها. تواجه أدوات المراسلة الاتحادية العديد من التحديات؛ منها الرسائل المزعجة، وأنظمة تقييم السمعة، وصعوبة اكتشاف المحتوى وجِهات الاتصال في غياب سجل مركزي؛ ومع ذلك، يرى فيها كثير من المستخدمين بديلًا واعدًا. أطلقنا على هؤلاء المستخدمين اسم: «لاجئي التضليل» (Ermoshina وMusiani، ٢٠٢٢)، وهم أولئك الذين هجروا المنصات السائدة بسبب شعورهم بخيبة الأمل تجاه انتشار المعلومات المضلِّلة أو خطاب الكراهية في تلك المنصات.