عرضت وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة الأردنية مشروع قانون حماية البيانات الشخصية على مجلس النواب في بداية هذا العام، واعتبره المركز الوطني لحقوق الإنسان ومراقبون آخرون بادرة خير لما يتضمن من مواد ترسم خارطة طريق لحماية خصوصية وحقوق استعمال الخدمات الرقمية في البلاد. لكن إن تمعنّا النظر، ستكشف لنا الصيغة الفضفاضة للمشروع، خاصةً في المادة ٦، عن ثغرة تقوّض فعالية وأثر الحماية القانونية المزعومة على المستخدم، إذ إن للسلطات الحق في مراقبة ومعالجة البيانات دون أخذ موافقة مسبقة من المستخدم في حالات ”منع وملاحقة الجريمة“ و”لأغراض إحصائية أو لمتطلبات الأمن الوطني أو لتحقيق المصلحة العامة“، كما جاء في نص المادة.
إعطاء أحقية وأسبقية للاعتبارات الأمنية على حساب حقوق الخصوصية ليس بالجديد، وليس حكرًا وحصرًا على الدول؛ فشركة آبل، على سبيل المثال، تقدمّت بخطة في العام المنصرم لإدخال تكنولوجيا ذكيّة تمسح وتراقب صور مستخدمي خاصية تخزين الصور على الغيمة (نظام تخزين معلومات احتياطي عبر شبكة خوادم الشركة) للكشف عن حالات استغلال الأطفال جنسيًا. ثم تراجعت الشركة عن هذه الخطوة بعدما عبّر حقوقيون وناشطون عن خطورتها على خصوصية المستخدمين وإمكانية توسعها وتوغلها الجائر لاستخدامات استخباراتية. هذه القضايا كُلها تكرر طرح سؤالٍ عن مكان الحد الفاصل بين خصوصيتنا الرقمية وأمن الدول والمُجتمعات - وهل يجب أن نرسم حدًا أصلًا، أم ننسفه تمامًا وننظر إلى المحاججات الأمنية من زاوية نقدية تحليلية ترفضها بالمطلق؟
عند النظر في هذه المبررات، من المهم إرساء افتراضات أولية، أولها أنّ الجريمة على الفضاء الرقمي لا تختلف عن الجريمة في الفضاء الفعلي، أي إنّه من غير الدقيق جعل المحاججات الأمنية الرقمية تعبر عن حالة فريدة من نوعها مختلفة عن مراقبة السلطات للفضاء العام الفيزيائي بوجودها الفعلي، سواء كان من عناصرها الأمنية وتجوالهم على الأرض أو باستخدامها الكاميرات والتكنولوجيا الشرطية للتحكم في الأشخاص في البيئة المبنية، العامة والخاصة كذلك. هذا يفتح المجال لتحليل نقدي يضع الاختراقات السيبرانية والممارسات الأمنية الرقمية التي تنال من خصوصية المستخدم في إطار فهمنا الأوسع لحاكمية الدولة وطرق هيمنتها لضمان استمراريتها وإعادة إنتاجها المستمر، بالتوازي مع إنتاجها لـ”مواطنين صالحين“ ضمن نطاق تحكمها.
هُنا، من المهم الإشارة إلى أن آليات المراقبة الرقمية تعتمد على تصنيف وتوصيف المستخدمين (Profiling)، إذ إن أخذ الإجراءات الأمنية والقضائية لتعدين واستباحة معلوماتهم الرقمية يعتمد على من تقرر الدولة أنّه يشكّل خطر عليها وعلى مجتمعها، أي أننا نصطدم بدايةً بمشكلة تعريف. من الشرير الذي يجدر بنا استباحة معلوماته هُنا؟ من الإرهابي؟ من يشكل الخطر الأمني المتمرد؟ من المجرم في نظر الدولة؟ وغالبًا ما تصنف الدول هؤلاء الفئات بناءً على تحيزها الموجود مسبقًا ضد مجموعات إمّا تشكل هويتها -المرتبطة بالطبقة الاجتماعية/مكان السكن، الدين، العرق، الطائفة- مشكلة لها، أو يشكل عملها ونشاطها مشكلةً لها. في أمريكا، على سبيل المثال، يتعرض الشخص الأسود والمسلم ومن خلفية صينية إلى حملات المراقبة الرقمية بوتيرة أعلى من الشخص الأبيض. لماذا؟ ببساطة لأن الدولة، بعملية استباقها للجريمة، تظن وترجح أنّ هذه المجتمعات سترتكب الجريمة بمعدلات أعلى لِذا تبرر لنفسها -مدفوعة بالعنصرية والافتراضات التوصيفية المُسبقة- اختراق خصوصياتهم لتضمن ”الأمن الجمعي“. من السهل هُنا إسقاط عمليات التوصيف هذه على أماكن أُخرى، فنصل إلى مكان -إن لم نصله بعد- توسم فيه حكومة دولة عربية على طائفة دينية صفة التمرد أو حكومة أخرى توصف الناشطين بالمجرمين وتلصق بهم تهم الإرهاب والإخلال بأمن الدولة مما يتيح لها تهميش الأصوات المُعارضة لممارساتها واختراق بياناتهم الشخصية بشكل روتيني ضمن أُطر قانونية ومشروعة دون محاسبة حقيقية.
هذا الجانب التوقعي/الاستباقي من المراقبة الرقمية يتراصف مع تنظير ديلوز وغواتيري عن دور المعلومات في التحكم في المجتمع تحت مظلّة القوة ما-بعد-النظرة-الشاملة (Post-Panoptic Power)[1]. يبني الفيلسوفان مُراجعة تحديثية لمفهوم النظرة-الشاملة/العين دائمة الرؤية (Panopticon) الذي طوره ميشال فوكو عند مراجعته لمفهوم المراقبة والتأديب في مساحة السجن والعيادة[2]. إضافة المنطلق الديلوزي-الغواتيري، من حيث تحرير مفهوم المراقبة من المساحات الفعلية ومن كونه إجراء يتبع الجريمة، يجعل من فهمنا للمراقبة السيبرانية في هذا العصر والآوان أدق. فيحولان عبر هذا البناء المفاهيم الفوكودية لتشمل كل المساحات في كل الأزمان -بما فيها الرقمية- وينقلان المراقبة من المرحلة التداركية (ما بعد الواقعة) إلى المرحلة الاستباقية الترجيحية. فنخرج بفهمنا لدولة تريد فرض قوتها التأديبية لترويض وتدجين الأجساد داخل فضاءاتها عبر تجميع فائض من المعلومات (Hyper-Information) تبرر الاستيلاء عليها ومراجعتها ضمن إطارها الخاص من الأخلاق وما هو ”طبيعي“ والقواعد التي تفبركها لضمان استمرار هيمنتها التامة على سلوكياتنا وشعورنا[3]. هذا ما يدفع الدولة لتراقبنا، وليس خوفها على المصلحة العامة.
في المحصلة؛ مراقبة الدولة لن تلغي المتحرشين أو المتاجرين بالبشر، ببساطة لأن وجودهم يبرر استمرارها بمراقبتنا جميعًا، إذ تخدم هذه المراقبة غايات في بنيان الدولة أكبر من محاججاتها ومبرراتها الأمنية. إنما، ستدفع المراقبة المستمرة المحفورة في يومياتنا وعقولنا وعقول المتحرشين على حد سواء بهم إلى الاختباء وإيجاد طرق جديدة خطيرة ومبتكرة ليستمروا بممارسة العنف ضد الأفراد في المجتمع. لا يمكننا قبول قوانين تعمل كغطاء على جميع الأفراد والمستخدمين دون تمييز، تُستغل لتقمعنا، لا لتحمينا. تخيلوا أن نستيقظ ذات صباح والهواتف ممنوعة من التداول لأنها تُسهل عمليات الابتزاز والاختطاف، أو أن يحظروا بيع سكاكين المطبخ لأنها قد تستعمل في جرائم القتل بدلًا من تقشير البرتقال!
الهوامش
[1] روي بوين هو أول من طور مفهوم القوة ما-بعد-النظرة-الشاملة عام ٢٠٠٠ كمراجعة حديثة لمفهوم فوكو ومدى ملائمته/تقصيره لشرح الواقع الحديث آنذاك. لكنني أتطرق لاستفاضة ديلوز وغواتيري في المقال هذا لأنهم من أتاحوا دخول المفاهيم المعلوماتية والتحليل رقمي التكنولوجي بشكل أفضل عبر ربطها بالتحكم المجتمعي/المُجتمع المُتحكّم.
[2] Foucault, M., 1995 [1975]. Discipline and Punish: The Birth of the Prison. New York City, NY: Vintage.
[3] Basturk, E., 2017. A Brief Analyse on Post Panoptic Surveillance: Deleuze&Guattarian Approach. International Journal of Social Sciences, 6(2), pp.1-17.