هذه المقالة تلخّص تاريخ الحراك اللاضي وتعتمد بشكل أساسي على كتاب Rebels Against the Future: The Luddites and Their War on the Industrial Revolution
تحكي إحدى أشهر القصص الشعبية البريطانية أن فارسًا اسمه روبن هود تمرّد على القوانين، سطا على الأثرياء ليطعم الفقراء وأتقن الرماية وصَحِبه عصبة من الأصدقاء. هذه القصة مثل الكثير من القصص الشعبية كما الشخصية الرئيسية فيها تتخطيان الواقع، وتنسج من خيوط الخيال والتطلعات أحداثًا فيها عبرة أو أُنسٌ للسامع. لكنها أيضًا كأي قصة منسوجة بتروِّ مؤلفٍ فذ أو يحيكها ويحكيها وعيٌ جمعي متوارث تلهم الأجيال اللاحقة، ولو بأيقونة فحسب. فبعد ظهورها بقرونٍ أرسلت مجموعةٌ مجموعةَ رسائلٍ تنذر أصحاب المصانع بالكف عن استخدام آلات خياطة تغنيهم عن العمال وكانت إحدى أوائل الرسائل موقعة من ”كهف روبن هود“.
لم يكن قائد هذه المجموعة روبن هود ولكنه كان شخصيةً تساويها بالخيالية واسمها نِد لَد، المجموعة اتسمت بأعلى درجات السرية وكانت كما عصبة روبن هود تهتم بالفقراء، لكنها بدلًا من سرقة الأغنياء وجهّت أسلحتها إلى مخلوقٍ جديد ألا وهو الآلات في بواكير الثورة الصناعية فجر القرن التاسع العشر، شنّت الجماعة هجمات من نهاية عام ١٨١١ وحتى بدايات عام ١٨١٣ حطمت فيها مئات الآلات ودفعت الحكومة لتحريك قوى الأمن بأعداد مهيبة، وباتت بعد أن بادت وصفًا أو تهمة لِمن يعادي التقدم التكنولوجي.
أصل الاسم والفعل
أصحاب هذا الحراك عُرفوا بال Luddites وهي تترجم في العادة إلى الحركة اللاضية1 تيمنًا بشخصية نِد لَد ويقال أنه صبي عمل في معمل خياطة وتلكأ في عمله ولذا عُزِّر بالسوط مما أثار حنقه، فأخذ مطرقة وحطّم آلة الحياكة مما جعله أيقونة التمرد على صاحب المصنع وعلى الآلة. لكن تتفاوت الأسباب المعتبَرة في أصول الإسم، ربما جاء من تعبير باللهجة المحلية يشير إلى الحطام، أو إلى منطقة ما مثل لولدو أو لودبروك، أو شخصيات تاريخية مثل لوديكا ملك مرسيا، وقد تكون لملك آخر وهو الملك لُد الذي مات في القرن الأول الميلادي لكنه كان حيًا في الذاكرة التراثية في زمن الحركة اللاضية، وليس من الغريب أن يرتبط الاسم بأسماء ملوك إذ كانت الرسائل من الحركة اللاضية تشير إلى أنها من الملك لُد وأحيانًا الجنرال لُد. وكما قال الشاعر الرومانسي لورد بايرون الذي دافع عن تطلعات الحركة ”فليسقط الملوك سوى الملك لُد“.
وإن كانت هذه أصول التسمية فلنتحدث عن أصول أفعالهم بصفتهم الحركة اللاضية. في القرن الثامن عشر تحركت عجلات الاختراعات في بعض المجالات لتأتي الثورة الصناعية مع اقتراب نهاية القرن. هذه الثورة المُحتفى بها حتى الآن، لما قدمته للبشرية من تسهيلات ولأنها رفعت قيمة الحياة، لم تكن مشرقة في بداياتها —ويحاجج اللاضيون الجدد أنها لم تشرق أبدًا—. يَصِف المؤرخ فرنان بروديل تلك البداية بأنها شهدت شُحًّا في الأجور ولم تكن الأوضاع المعيشية صحية، واقتلعت التقلباتُ الاجتماعية الأفراد من عوائلهم والموارد من القرى، ويقول أن المؤرخين يغضون الطرف عن المعاناة التي اضطر الشعب البريطاني المرور بها مقابل تحويل دولتهم إلى أول دولة صناعية.
كانت صناعة الأقمشة هي من أول الصناعات التي مُسخِت تكنولوجيًا وليس من الغريب أن أعضاء الحركة اللاضية كانوا من نسّاجي الأقمشة والحائكين لها وممشطيها والعاملين على تزيينها بالإضافة إلى حرفيين آخرين. قبل ابتكار آلات مثل ”الجيني الدوّارة“ ومحلج القطن والمنسج الآلي كانت معظم الأعمال تؤدى يدويًا على أجهزة أقل تعقيدًا وتنتج على مستوى محلي. وتُعَرّف هذه الطريقة من التصنيع باسم الصناعة في الأكواخ.
لكن نظام المصانع سحق هذه الصناعة واستبدلها ولم يترك العمال في حالٍ أفضل، بما أن الآلات لم تعد تتطلب درجة عالية من الحرفية والجهد لتشغيلها لم يعد هناك مانع من تشغيل النساء والأطفال بدلًا من الرجال، وجرى استغلالهم بدفع أجورٍ أقل تساوي ثلث أجر الرجال. لم تكن ظروف العمل في مصانع القطن مريحةً البتة، درجة الحرارة مرتفعة وساعات العمل طويلة قد تصل إلى إثني عشرة ساعة، ارتفعت ضجة الآلات إلى حدٍّ أجبر العمال على التواصل عن طريق قراءة الشفاه، امتلأ الهواء بالزغب مما ولّد عند بعض العمال سعلة مميزة لم تفارقهم مدى الحياة، وكانت حوادث العمل متكررة وفتاكة. الشاهد تعليقُ أبٍ فقد ابنه في حادثة هرست جسده الصغير بأن أصحاب العمل إن أرادوا استخدام الآلات بدلًا من العمال فعليهم الاستعانة بأطفال من فولاذ. أضافت قسوة أرباب العمل إلى المعاناة معاناةً، مثلًا جاء في لائحة غرامات مفروضة على العمال تاريخها ١٨٢٤ عقوبات على أبسط الأمور مثل التصفير أو التأخر لمدة خمس دقائق، كما اندرج تحت تأديب العمال ضربهم بالأسواط ولم ينجو صغار السن من ذلك، بل أودت شدة الضرب في بعض الأحيان بحياتهم. في عام ١٨٣١ ورد في تقرير أحد رجال الصحة أن مشهد عمال المصانع يرثى له، وأنهم انحطّوا لبشرٍ وهنين ضعفاء قاماتهم منحرفة. في عام ١٨٤٩ أي بعد الحركة اللاضية بزهاء ٣٠ عامًا، قدّم صحفي تقريرًا عن أحوال العائلات في مناطق سكن عمال الأقمشة، ونقل أخبار الشوارع القذرة والمنازل المتآكلة وأن الوجوه سيماهها البؤس، وعلقت إحدى النساء حينها أنهم لا يعيشون حقًا، هم فقط يحاولون البقاء على قيد الحياة. ومع أن المعظم في يومنا يحتفلون بتسهيل التكنولوجيا لحياة العامل لكنها في تلك الأيام كانت قميئة لدرجة صعبّت على أصحاب المصانع إيجاد من يقبل العمل عندهم، حينها فضّل البعض الجوع على العمل في تلك الظروف التعيسة. وهذا هو الإنجاز المميز للثورة الصناعية، وفقًا للكاتب كيركباتريك، فهي صنعت مجتمعًا يخيّر المرء بين عبودية الوظيفة وبين الجوع المدقع.
مع معرفة السبب يبطل العجب من ردة فعلٍ راديكالية من العمال في تلك المجالات التي تلقت الصفعة الأولى من الثورة الصناعية، الحركة اللاضية كانت ثورة مضادة مصغرة، جاءت عندما أُنذِر عمال الأقمشة بما هو قادم والمذكور في الفقرة السابقة، في فترة نشوء الحركة لم يكن العمل متوافرًا كما كان في السابق، عبّر عنها مؤرخ معاصر للأحداث بذكر مطلب العمال ”امنحونا العمل بأي راتب، نصف رغيف خيرٌ من لا شيء“. لكن ضجة الآلات التي بدأت حينها بمزاحمتهم طغت على مطالبهم، تلك آلات تكتفي بعامل ليقوم بشغل يتطلب إنجازه ستةُ عمال. لم يقرأ أولئك الرجال المستقبل المذكور في الفقرة السابقة لكنهم أدركوا دون الحاجة لذلك بأن نظام المصانع سيقلب حياتهم وحياة أبنائهم.
لكل فعل رد فعل
ارتفعت الموجة الأولى من الحركة اللاضية في نوتنغهامشير، تميزت هذه المرحلة من احتجاجات اللاضيين بالتركيز على الآلات. يرسل اللاضيون رسائل موقعة من الملك لد أو الجنرال نِد لد، يطالبون فيها بتخفيف وطأة الآلات على أرزاقهم، يطالبون إما بالامتناع عن استخدام المكائن أو برفع الأجور أو يعترضون على توظيف الأطفال عمالًا، وإن تجاهل أرباب العمل مطالبهم تأتي الهجمة على الصورة الآتية: يجتمع اللاضيون في جنح الليل بالعشرات وأحيانًا بالمئات، يقتحمون معملًا — منتقى بسبب جور صاحبه — أو منزل صاحب المعمل ويحطمون آلات الحياكة بالمطارق عُرِفت بمطارق أخنوخ. في شهر تشرين الثاني من عام ١٨١١ حطّم اللاضيون ما يقارب الأربعمئة آلة وأثبتوا أن هدفهم هو الاحتجاج ضد الجماد لا العنف ضد العباد، ففي الكثير من الهجمات لم يؤذى حراس المصانع أو مالكيهم على الرغم من توجيه التهديدات لهم في الرسائل. في معظم الهجمات طوال السنتين اللاحقتين كانوا يكتفون بتقييد المتواجدين أو منعهم من التدخل بتحطيم الآلات وإجبار بعضهم على القسم بعدم التبليغ عن الهجمة.
لا يعني ذلك أن مسلسل اللاضية مَرَّ دون إرهاق الدم أو لم يلفت انتباه الدولة. فقد لاقى رَدَّ فعل اللاضية لهجمة الآلات على أرزاقهم منذ البداية رَدُّ فعل من أصحاب المصانع، ففي إحدى الهجمات اكتشف اللاضيون أن صاحب العمل واسمه هولنزورث قد طلب من العمال والجيران حراسة الآلات، تبادلت المجموعتان إطلاق النار وعندما حاول أحد اللاضيون، شاب اسمه جون ويستلي، اقتحام نافذة أصيب بعيار ناري قتله، أخذه رفاقه إلى الغابة المجاورة وعادوا غاضبين ليقتحموا المنزل ويحرقوه بعدما فَرَّ كل من فيه.
اعترضت إحدى الهجمات قافلة تنقل الآلات وفي مدينة ساتون تجمع المئات من اللاضيون وهاجموا محال الحائكين ودمروا عشرات الآلات، إثر الهجمات هذه استعان أرباب العمل بميليشات محلية للحراسة. تصاعدت أعمال العنف تدريجيًا وانتشرت الهجمات لتصل إلى لانكشير ويوركشير لترسم مثلثًا لاضيًا تفوق مساحته الخمسة آلاف كيلومتر. مع مرور الوقت زادت أعداد الآلات المحطمة، لم تكتّف الحكومة ذراعيها بل حركتها لإمداد أرباب العمل بالجنود، ما يقارب الألفا جندي بعثوا إلى نوتنغهام لاحتواء الحراك في الأشهر الأولى، هذه القوة المهيبة وصفها وزير الداخلية ريتشارد رايدر بأنها أكبر قوة ترسلها الحكومة لردع زعزعة محلية. لكنها لم تزعزع عزيمة الحراك اللاضي، فقد استمرت الهجمات في جنح الليل بينما اكتفى الجنود باستعراض قوتهم في أصباح الأشهر القادمة أي في بدايات عام ١٨١٢. بدا الأمر في بعض الأحيان وكأنهم في حالة حرب من كثرة العسكر، وتموضعت المزيد من القوات في مواقع معينة ترقبًا لأي هجمة لاضيّة. اعتُقِل بعض اللاضيين وحُرِقت المزيد من المصانع والورشات في الأشهر الأولى كما تضاعفت قوات الأمن واتسعت رقعة انتشارها.
تعطي القراءة العابرة عن الحراك اللاضي انطباعًا بأنه اكتفى بأعمال شغب بسيطة لكنها تزامنت مع احتجاجات أخرى بسبب الأوضاع الاقتصادية القاسية، وعلى الرغم من قصر عمر الحركة اللاضية لكن أفعالها تطلبت رد فعلٍ أقسى من الحكومة، ولم تنتظر الحكومة طويلًا خوفًا من أن ترتقي حالة التمرد هذه إلى ثورة مكتملة. أصدرت في آذار قانونًا يعتبر تحطيم الآلات جناية كبرى عقوبتها الإعدام وكان اللورد بايرون من المدافعين القلة عن اللاضية وألقى خطابًا متعاطفًا معهم لكنه لم يفلح في إيقاف القرار من التشريع. ثم باشرت الأجهزة الأمنية بمحاولات استخباراتية كي تقبض على اللاضيين ولم ينضب ضخ الجنود لاحتواء الكارثة الثورية قبل انطلاقها. لتوضيح حجم القوة العسكرية في أيّار يمكن الإشارة لأن إنجلترا التي وقفت بجانب إسبانيا ضد نابليون أرسلت ما يقارب تسعة آلاف جندي لتدعم قواتها هناك وفي المقابل وقتئذ أرسلت تقريبًا أربعة عشر ألف جندي في المثلث اللاضي. لا يعني ذلك أن محصلة الجنود في الجبهة الداخلية أكثر من الخارج لكنها على أقل تقدير كانت تفوق الإمدادات، يعطينا هذا تصورًا أفضل لجدية التحالف بين القوى العسكرية وأرباب العمل ضد العمال، وعن قسوة القبضة التي واجهت بها الحكومة الحركة اللاضية.
لم تقتصر التصعيدات على زيادة أعداد الجنود في صفٍ وعلى الهجمات ضد الآلات في الصف المقابل. إحدى الهجمات اللاضية فشلت بسبب تجهيزات ويليام كارترايت، صاحب مصنع لغزل القطن، حيث تبادلت القوات التي استعان بها النيران مع حشد لاضي حاول اقتحام المصنع دون جدوى وأسفر الاقتتال عن وقوع ضحايا من اللاضيين. ذاع صيت هذه المناوشة في الدولة وشكلّت انعطافًا في تكتيكات الحركة، بينما أشاد أرباب العمل بكارترايت، أصبح في أعين اللاضيين هدفًا مشروعًا، وللمرة الأولى حاولت الحركة اغتيال شخصية صناعية بدلًا من التركيز على الآلات. محاولة الاغتيال لم تنجح وغدا كارترايت رجلًا ثريًا لكنه نُبِذ مجتمعيًا. لم تكن هذه المحاولة هي الوحيدة من نوعها، تبعها محاولة اغتيال رب عملٍ آخر اسمه وليام ترينثام لكنها باءت بالفشل، ثم في نيسان نجح اللاضيون في اغتيال وليام هورسفال2. دخل التمرد اللاضي في مرحلة ثانية تميّزت بالسطو على الأسلحة النارية بدلًا من الاكتفاء بتحطيم الآلات وحرق المصانع.
هذه المرحلة لم تدم طويلًا مع أنها أنذرت برسائل اللاضيين بالإضافة إلى حالة الغضب المستعرة في الدولة باقتراب ثورة ما، تمكنت القوى الأمنية بعد إلقاء وزنها بالكامل على الحراك من إلقاء القبض على عددٍ من اللاضيين. بعدها سعت المحاكمة لأن تصوّر المتمردين اللاضيين كأنهم مثيرو شغب ليس إلا، تفادت المحكمة ذكر دوافعهم والمعاناة التي لحقت بهم والتي حفزتهم على التمرد. في كانون الثاني عام ١٨١٣ ارتقت أجساد أربعة عشر رجلًا شنقًا، وأفل قمر اللاضية. آخر هجمة ذو طابعٍ لاضي كانت يتيمة في ١٨١٦.
المسألة مسألة مبدأ لا نقود
تستخدم كلمة اللاضية لتصف من يعادي التكنولوجيا، أعتقد أن تاريخ هذه الحركة على الرغم من قصره يشهد لها بأنها لم تواجه الآلات بسبب مخاوف لاعقلانية، الظروف التي نشأت بها والتي تلتها لم ترحم العمال سواء في مجال الأنسجة أو في غيره. تحاول بعض المقالات اختزال مشكلة اللاضية مع الآلات بأنها مشكلة اقتصادية، ومع أن هذا أقرب إلى الصحة نظرًا لاحتجاجات اللاضيين على خسارة وظائفهم أو انكماش الأجور لكنه ليس السبب الوحيد. لقد تنبأ اللاضيون —وإن لم ينظّروا— بآثار التكنولوجيا التي ستمسخ مجتمعاتهم. أولًا لم تكن آلات النسيج المطورة تلك تستخدم للمرة الأولى بل تواجدت لفترة قبل قيام الحراك، وهم لم يقوموا ضدها لأنها إضافات صغيرة تغيّر الوضع الوظيفي فحسب بل لأنها نواة لنظام مصنعي سيمحو مع الوقت نظام الصناعة في الأكواخ والثقافة المرتبطة به. أي أن مشكلتهم لم تقتصر على الجانب المالي، وفقًا للمؤرخ آدريان راندال كانت هنالك تقاليد تضمن للعامل حقوقه وكرامته، أما المصانع فقد جاءت لتنفي تلك التقاليد وتحوّل العمال إلى عبيد يعتمد عملهم على ما ينتجون من أرباح لصاحب المصنع، لذلك يمكننا أن نقول أن الوظائف أو الأجور ليست فقط ما كانت عرضة للضرر بل أدرك اللاضيون أن ثقافة العمل كلها على وشك الانهيار، ولعل أفضل صياغة ومثال على ذلك هو وصفهم للآلات التي يرفضونها بأنها تلك ”الآلات التي تضر النسيج المجتمعي“3
الشاهد الآخر على أن اللاضية لم تكترث بأرباح سريعة بل أرادت ثقافة عمل تحترمهم هو درجة السرية التي تميّزت بها، في رسالة من دوق نيوكاسل يشكو لوزير الداخلية رايدر الصعوبة البالغة في استخراج أي معلومات عن المجموعة. لم تكن المكافآت المعروضة لمن يتعاون مع الأمن تغري أيًّا منهم على الوشاية، ”لا شيء يخترق غموض اللاضية“ جاء في تقريرٍ آخر، ”لا يسعنا إلا أن نقدّر صِدقَ الهدف الذي مكّن فقراءَ من الامتناع عن أخذ الرشاوى المغرية“. على سبيل المثال وصلت قيمة المكافأة على التبليغ عن معلومات تتعلق بمحاولة اغتيال ترينثام إلى ٧٠٠ باوند لكن ذلك لم يفلح في استدراج أي لاضي. لاحقًا بثّت قوات الأمن شبكة مخبرين بأجور سخيّة ومع صلاحيات مشبوهة قانونيًا وحتى تلك الشبكة بالكاد تمكنت من اختراق التجمعات اللاضية. تمكنت أخيرًا القوات الأمنية من إلقاء القبض على لاضي بعد تهديد والدته وثم اضطر هو تحت وطأة التحقيق إلى الوشاية بأولئك الرجال الذين شنقوا تباعًا. كل ذلك جاء متأخرًا وبعد جهدٍ جهيد من ترهيب قوات الأمن للمواطنين والتجسس عليهم والفشل بالكثير من المحاولات، ولم تكن هذه وشاية طوعية طمعًا بالمال. كما يمكن النظر إلى الدائرة الأكبر من المجتمع الذي وفّر للحركة اللاضية حاضنة مجتمعية سمحت لهم بإتمام هجماتهم.4
نهاية أم بداية؟
صعد الحراك اللاضي وسقط في عامين (أو خمسة أعوام حسب اعتماد كثافة الهجمات)، تكمن أهمية هذا الحراك في أنها تصوّر ردة الفعل الطبيعية للتحوّل الصناعي لطبيعة الحياة وأن الردة هذه أدركت مباشرةً بأن المشكلة هنا ليست بأشخاصٍ بعينهم أو تقتصر على الاقتصاد مع الإقرار بأهميته وإنما في طبيعة الآلات المؤثرة في محيطها أوتوماتيكيًا، رسمت الردة الطبيعية منذ البداية اعتراضًا منظمًا لا يخلو من المرح العفوي، ردًّا بشريًا كل البشرية على هيمنة الآلة ومنطقها البارد والذي يخلو من الروح الإنسانية والاعتبارات المجتمعية. لكن الآلة انتصرت وقلبت البشرية في القرنين التاليين، في يومنا هذا تغمرنا الحياة الصناعية كما المياه والسمك، لا شك بأن التطور المتسارع أتاح الفرص وأراح البشر، جسديًا على الأقل، في المقابل فتح المجال لأكثر الصراعات دمويةً في تاريخ البشرية وأعطى الحكومات الحكيمة والرعناء على حد سواء قدراتٍ فتاكة في التحكم بالشعوب وإخضاعها بصورة أشرس من أماني أطغى الطغاة في العصور القديمة.
تنبّه المفكرون لمسألة التكنولوجيا لكن التيارات العامة والسائدة حيّدت مسألة التكنولوجيا وأدرجتها تحت مسائل أخرى، الاختلافات كانت اقتصادية وسياسية بين الأيدولوجيات المختلفة، والدول المتقدمة لم تتوانَ في أي سباق تكنولوجي عسكري أو تكنولوجي استخباراتي. لم يمنع ذلك بعض المفكرين والنشطاء —على الرغم من قِلّتهم— من تدبر أمر التكنولوجيا بصورة مباشرة ونقدية تتخطى الأبجديات البكماء في التعاطي مع هذه المسألة، هنالك لاضية فلسفية إن صح التعبير. هناك في يومنا من يمكن اعتباره لاضيًا من الناحية الفكرية، منهم من يصرحون بذلك ويطلقون على أنفسهم اللاضيون الجدد، وإن لم تمنعني الآلات ومتطلبات الحياة الصناعية سأسلط الضوء على أفكارهم في المستقبل. حتى ذلك اليوم، أرجو من القارئ أن يتفكر بثورة الجنرال لد ضد الثورة الصناعية، وبالآثار التكنولوجية على حياته، وأن يفكر بالسؤال التالي: هل كانت اللاضية صرخة احتضار أخيرة من حياة ما قبل الثورة الصناعية أم أنها الطلقة الأولى في مواجهة صرنا ندرك تدريجيًا خطورتها؟
الهوامش
1 أعتقد أن الترجمة الأنسب هي الحركة اللدّية أو اللودية لأن أبناء الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس يغيب عن لغتهم حرف الضاد ولأن أقرب لفظٍ للكلمة الإنجليزية هو ”لُدَايتس“
2 إحدى التهديدات توجهت إلى رئيس وزراء بريطانيا سبنسر بارسيفال الذي قدّم قانون تجريم تحطيم الآلات، وفعلًا تم اغتياله لكن تبيّن أن القاتل الذي جلس بهدوء بعد إطلاق النار وتقبّل مصيره في السجن والإعدام لم يكن لاضيًا وإنما رجل أعمال متضرر بسبب سياسات بارسيفال
3 العبارة في الإنجليزية Machinery hurtful to commonality
4 جانب من السرية يعود لطبيعة التنظيم ومفهوم القسم حينها، كان اللاضيون وفقًا للمخبرين يقسمون على عدم تبليغ السلطات بأي معلومة وكان القسم بهذه الصورة مخالفًا للقانون أيضًا.