هل تخيلت يومًا أن الإنترنت الواسع الذي تتصفحه سوف يصبح مقيدا بخدمات اشتراك شهرية، بعضها يتيح الولوج لمواقع معينة، وبعضها الآخر مخصص لموقع يوتيوب مثلًا؟ هذا ما كان سيحدث —في الحقيقة— لولا وجود مبدأ حيادية الشبكة أو ما يعرف بحيادية الإنترنت، على أن هذا المبدأ يتعرض للتهديد. فبعض الجهات تحاول تخطيه، ضاربةً عرض الحائط بحق الجميع في الوصول إلى الإنترنت بتساوٍ ومن دون أي حجب أو تفضيل أو تمييز بين المواقع والتطبيقات. وربما تتعرض أقوى وسيلة تواصل ومعرفة في العالم (وهي الإنترنت) للتحكم من قبل شركات خاصة يمكنها أن تقيد حرية المستخدم فيما يشاهده أو يتصفحه ، كما يمكنها أن تحجب ما لا تريده وتقيد من حرية التعبير ، تماماً مثل الأنظمة الاستبدادية، بالإضافة إلى تشريع الابتزاز بإجبار المستخدم على أن يدفع المال ليصل إلى ما يريد، مما يؤدي إلى حالة من الفوضى والقلق بين مستخدمي الإنترنت.
يعود مفهوم حيادية الإنترنت إلى فترة السبعينيات، عندما سعت الهيئات الناظمة إلى منع «AT&T» (التي كانت تحتكر مجال الاتصالات حينئذٍ) من أن تضع عقبات أمام تأسيس شركات جديدة لخدمات الاتصالات الخلوية. ولكن هذه المحاولات فشلت في مطلع الألفية الثالثة، إذ رفضت هيئات قضائية عدة منح صفة ”شركات اتصالات خلوية“ لمزودي خدمة الإنترنت، وبموجبه يلزم مزودو خدمة الإنترنت بمعاملة المحتوى معاملة متساوية ويمنعون من التمييز بين المواقع والتطبيقات من ناحية سرعة نقل البيانات أو الحجب أو التفضيل، لأن الإنترنت هو مرفق عام يجب أن يكون للجميع الحق بالوصول إليه كيفما أرادوا. وقد نشأ جدل بشأن ”انفتاح الإنترنت وحريته“ منذ أكثر من عقد من الزمن وأحيل على السلطات القضائية، فيخشى أنصار هذا المبدأ أن ”يتفاوت مستوى الإنترنت“ بسبب فرض تعرفة أعلى على الاتصال عالي السرعة، أو من خلال حجب بعض الخدمات التي قد تنافس مزودي خدمة الإنترنت (مثل الفيديو على الطلب وخدمات التواصل ومحركات البحث).
قد تبدو فكرة حيادية الإنترنت بسيطة، لكن التهاون في تطبيقها قد يؤدي إلى فوضى عارمة في عالم الإنترنت وربما لن يبقى كما تعرفه اليوم، فعلى سبيل المثال: عند استخدام شبكة الإنترنت للدخول إلى المواقع والتطبيقات وتحميل المحتوى تصل هذه الطلبات على شكل رزم من البيانات، ويجب أن يوافق مزود خدمات الإنترنت على هذه الرزم قبل أن تصل للمستخدم، تطبيقاً لمبدأ حيادية الإنترنت فإن جميع هذه الرزم، مهما كان محتواها أو مصدرها أو متلقيها، يجب أن تصل بنفس المعدل من دون أي تمييز. أما إن خُرِقَت هذه الحيادية فإن بإمكان مقدمي خدمات الإنترنت التحكّم بما نراه على الشبكة، وقد يصنعون ذلك بإبطاء سرعة الوصول إلى بيانات المواقع الصغيرة (غير القادرة على الدفع) أو تسريع وصول بيانات الشركات الضخمة (مثل أمازون ونتفلكس)، أو منع الوصول إلى مواقع معينة بأي طريقة سوى الاشتراك المدفوع، أو حتى حجب الوصول إلى بعض المواقع والتطبيقات. أي أن اتصالنا بالإنترنت لن يسمح لنا بالوصول إلى أي موقع أو تطبيق، وإنما يجب الاشتراك بحزم شهرية من مزود الإنترنت للوصول إلى المواقع التي نريدها.
تستطيع الشركات الكبرى جني أرباح طائلة في حال تم ألغاء حيادية الإنترنت، وذلك من خلال إجبار المستخدمين على دفع مبالغ كبيرة للحصول على خدمات سريعة وبجودة عالية تمكنهم من القيام بأعمالهم المرتبطة بالانترنت.
فعلى سبيل المثال: فقد تشترط شركة «AT&T» (والتي تقدم خدمات الإنترنت) على شركة مايكروسوفت دفع مبالغ كبيرة من المال مقابل عرض مواقعهم في خط الإنترنت السريع"، ولكن ما يحصل فعلياً هو أن "الخط السريع" ليس أسرع من الخط المتوفر حالياً، إنما يقوم مزودوا الإنترنت بنقل الشركات التي لا تدفع إلى "خط بطيء"، وسيترتب على هذا الإجراء عواقب وخيمة .
ونظرًا للجدل الواسع في موضوع حيادية الإنترنت بين مزودي خدمة الانترنت ومستخدميه فلم تنجح إلا ثلاثة دول بوضع قوانين صارمة تضمن هذه الحيادية، وهي تشيلي وسلوفينيا وهولندا. أما في دول العالم العربي فحيادية الإنترنت تخضع لسلطة الدولة وسلطة الشركات المزودة للإنترنت، وتفرض الشركات المزودة للإنترنت قوانينها على المستخدمين كيفما شاءت: مثل سياسة الاستخدام العادل، والتي تفرض على جميع المستخدمين كمية محددة من البيانات في الشهر لا يمكن تجاوزها.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه بعض الباحثين أن تبني حيادية الشبكة ليست قضية ملحة في منطقة الشرق الأوسط، فإننا نعتقد بقوة أن تطبيق مبدأ حيادية الشبكة في جميع أنحاء بلداننا سيؤدي إلى انتشار وتبادل المعلومات؛ مما يجعل البقاء للأكثر مصداقية وليس للأكثر مالاً وسلطة. فبدون الحيادية تتمكن الشركات الكبيرة ذات النفوذ العالي من الدفع لمزودي خدمة الإنترنت لزيادة سرعة الاتصال، وبذلك سوف تحتكر شبكة الإنترنت، ولن يؤثر هذا الأمر على الشركات الكبيرة ذات السيولة الكبيرة، ولكن المتضرر الرئيسي سيكون المواقع الناشئة والصغيرة التي لن تدخل مضمار المنافسة أصلاً.
نحن ندعو بأن يكون الانترنت مساحةً عامة تخضع للتنظيم الحكومي (مثل كافة المرافق العمومية مثله مثل الهاتف والمياه والكهرباء) وليس امتيازًا، بحيث لا يمكن حظر أو إبطاء المحتوى ولا يمكن ”تحديد الأولويات المدفوعة“ أو السماح لبعض الشركات بجعل محتواها أسرع من غيرها.