المُقدمة
تحديث: كتبتُ مقالًا يَستكمِل الأفكار المطروحة هنا: إبقاء المنصات الإلكترونية مفتوحة. اطَّلِع عليه إن وجدت هذه المقالة مثيرة للاهتمام.
لم استخدِم «واتساب» قط، ولا أنوي استخدامه أبدًا. ومع ذلك، فإنّه يُعَدّ حالة مثالية للدراسة عن الشركات التي تَتبَع نموذج عمل أُسمّيه «نموذج تدجين المستخدِم»، وهذا ما دفعني لكتابة هذه المقالة. يحتل «تدجين المستخدمين» مرتبة عالية في قائمتِي للمشكلات التي تعاني منها البشرية، وهذا وحده يَستحِق شرحًا مفصَّلًا.
لم يكن «واتساب» أول تطبيق مراسلة فورية من نوعه، وغالبًا لن يكون الأخير. لقد اخترتُ «واتساب» تحديدًا لأنّه أضحى موضوعًا بارزًا نتيجة لمشكلاته الأخيرة المتعلقة بالخصوصية.
وبعدما اختَتمْنا هذه المقدمة التي توضح الصورة الكبيرة، دعونا نبدأ.
نهضة «واتساب»
لمن لا يعرف «واتساب» هي أداة تُسهِّل مهمة «فيسبوك» الأساسية، وهي هندسة سلوك المستخدمين وبيعه (أو ما يُعرَف باسم ”الإعلانات الموجَّهة“). نجح «واتساب» في كسب رضا الناس عندما سمح لهم بإرسال رسائل نصية عبر الإنترنت —رغم أن ذلك كان ممكنًا بالأصل— مستعينًا بواجهة استخدام بسيط وتسويقٍ ناجح. وبعدها توسَّع وشمل ميّزات مثل المكالمات الصوتية ومكالمات الفيديو المجانية. المكالمات المجانية ساعدته على أن يصبح المنصة الأساسية للتواصل في العديد من المناطق حول العالم. يدهشني مدى انتشاره في كل مرة أزور فيها أقاربي في الهند؛ وكثيرًا ما تُقابلني نظرات استغراب عندما أُذكّرهم بأنني لا أستخدم «واتساب».
لأنه يعتمد على نظام دردشة مُحتكَر لا يتوافق مع أي تطبيقات خارجية، تَمكَّن «واتساب» من أن يُنشِئ ما يعرف بتأثير الشبكة. كان مستخدمو «واتساب» رهائن لأنّ مغادرة التطبيق تعني فقدان القدرة على التواصل مع مستخدمي «واتساب» الآخرين. وعلى أي شخص يُفكِّر بالمغادرة أن يقنع جميع أصدقائه بالانتقال أيضًا، بما في ذلك أولئك غير المُتمكِّنين تقنيًا والذين بالكاد تعلَّموا طريقة استخدام «واتساب» من الأساس.
في عالم «واتساب»، يجب على كل من يريد أن يبقى على اتصال أن يلتزم بالقواعد التالية:
- لا يمكنك أن ترسل الرسائل إلّا باستخدام تطبيق «واتساب» المُحتكَر؛ لأنَّه لا يدعَم التطبيقات البديلة.
- يجب أن تَعمَل الأجهزة المحمولة للمُستخدِمين على أنظمة تشغيل يدعمها التطبيق، إذ يقتصر دعم «واتساب» على أنظمة التشغيل الرائجة، ممّا زاد من هيمنة نظامَي «أندرويد» و«آي أو إس».
- يعتمد المُستخدِمون بالكامل على مطوِّري «واتساب»، إذا قرَّر المطوِّرون أن يدخلوا ميزات معادية للمستخدمين، سيُجبَر الجميع على تقبَّلها. لا يمكنهم أن يستعملوا خادم أو تطبيق آخر دون التخلي عن «واتساب» ودون فقدان القدرة على التواصل مع جميع معارفهم هناك.
تدجين المُستخدِم
برز «واتساب» عبر تدجين كائنات كانت حرة وجرّها إلى زريبته وتطويع سلوكها لتجعلها متكلة على أسيادها. ومع الوقت، أصبح من الصعب أو من المستحيل أن تعود تلك الكائنات إلى نمط حياتها السابق. قد تبدو هذه العملية مألوفة لك، فإن تشبه بشكلٍ مريب عملية تدجين الحيوانات.
أُسمّي هذا النوع من الاحتكار التقني «تدجين المُستخدِم»، أي نزع استقلالية المُستخدِم ليصبح أسيرًا خادمًا للبائع.
اخترت هذا التشبيه لأن تدجين الحيوانات هو عملية تدريجية لا تكون متعمَّدة دائمًا، وتنطوي غالبًا على اعتماد مجموعة ما على أخرى. فعلى سبيل المثال، هناك أدلّة تشير إلى أن تدجين الكلاب بدأ بالتعايش الاجتماعي، ممّا أدّى إلى نوع من الانتقاء الطبيعي الذي عزَّز جينات تُفضِّل الودّ مع البشر والاعتماد عليهم.[١]
سواء حدث ذلك عمدًا أم عن طريق الصدفة، فإنّ عملية تدجين المستخدمين تتبَع غالبًا نفس الخطوات الثلاث:
- مستوى عالٍ من التبعية يمنحه المُستخدِمون لبائع البرمجيات.
- غياب قدرة المُستخدِم على التحكُّم في البرمجيّات، وذلك عن طريق وسيلة واحدة على الأقل من هاتين الوسيلتين:
بعد اكتمال أول خطوتين من العملية، أصبح مستخدمو «واتساب» عرضة للتدجين. ونظرًا لوجود مستثمرين يجب إرضاؤهم، توفرت لديهم كل الدوافع لإدخال ميزات معادية للمُستخدِمين دون مواجهة أي تبعات.
وطبعًا، هذا ما حصل.
سقوط «واتساب»
لعملية التدجين هدف واضح، فهي تُمكِّن فصيلة الأسياد من تحقيق مصالحها باستغلال فصيلة المُدجَّنين.
مؤخرًا، حدّثت شركة «واتساب» سياسة الخصوصية لتسمح بمشاركة البيانات مع شركتها الأم، «فيسبوك». كان أمام المستخدمين الذين وافقوا سابقًا على سياسة الخصوصية القديمة خياران، إمّا القبول بالشروط الجديدة، أو التوقف عن استخدام «واتساب» نهائيًا. يمثِّل تحديث سياسة الخصوصية هذا مثالًا كلاسيكيًا على خدعة ”الاستدراج ثم الطعن“ (bait-and-switch)، إذ استدرَج «واتساب» المستخدمين بواجهة أنيقة وقناع زائف من الخصوصية، ثم دجَّنهم، أي جرَّدهم من استقلاليتهم وقدرتهم على الهجرة، وبعدها تراجعت الشركة عن التزامها السابق بالخصوصية دون أن تواجه عواقب تُذكَر. مهَّدت كل خطوة في هذه العملية لما تلاها؛ لو لم تحدث عملية التدجين، لكان من السهل على الغالبية العظمى أن تُغادِر المنصة دون عقبات كبيرة.
نحن، الذين أطلقنا التحذيرات قبل سنوات، عشنا لحظة قصيرة من النشوة السادية، حين تحوَّلت ألقابنا من ”مزعجون مصابون بجنون الارتياب ومؤمنون بنظريات المؤامرة“ إلى مجرد ”مزعجون“.
محاولة لاحتواء الضرر
لاقت تلك الخدعة موجة استياء دفعت عددًا صغيرًا لكن ملحوظًا من المُستخدِمين إلى الهجرة، وقد تبيَّن أن العدد كان أعلى بقليل مما اعتبرته «واتساب» هامش خطأ مقبول. ردًّا على ذلك، أجَّلت «واتساب» سياساتها الجديدة، ونشرت إعلانًا لتحسين صورتها.
إعلان لتطبيق «واتساب»
يسرد الإعلان مجموعة من أنواع البيانات التي لا يجمعها أو يشاركها تطبيق «واتساب». الإيحاء باحترام الخصوصية عن طريق سرد البيانات التي لا تُجمَع يُعَدّ تضليلًا متعمَّدًا. فقط لأن «واتساب» لا يَجمَع عينات شعر أو بصمات شبكية فذلك لا يعني أنّه يحترم الخصوصية لأنه لا ينفي حقيقة أنه يجمع معلومات من نوعٍ آخر.
ينفي الإعلان ”الاحتفاظ بسجلات عن الرسائل والاتصالات“. لكن جمْع البيانات لا يساوي بالضرورة ”الاحتفاظ بسجلات“؛ فمن الممكن إدخال البيانات الوصفية (Metadata) إلى خوارزمية قبل التخلُّص منها. وهكذا، يمكن للنموذج أن يستنتج أنّ شخصَين يتواصلان باستمرار، دون أن يُسجِّل البيانات الوصفية لكل مكالمة. إنّ اختيارهم لصياغة العبارة حول السجلات تحديدًا يوحي بأنّ «واتساب» يَجمَع هذا النوع من البيانات بالفعل، أو أنه تعمَّد أن يترك الباب مفتوحًا أمام جمْع البيانات في المستقبل.
نظرة سريعة على سياسة الخصوصية الحقيقية لتطبيق «واتساب» وقتئذ تُبيَّن أنه كان يجمع قدرًا كبيرًا من البيانات الوصفية لتُستخدم في التسويق على «فيسبوك».
حرية البرمجيّات
ضمن عملية تدجين المُستخدِم، يكون توفير البرمجيات المفيدة وسيلةً لغاية استغلال المُستخدِم. البديل بسيط: أن تكون خدمة المُستخدِم هي الغاية بعينها.
ولكي لا يقع المُستخدِم تحت سيطرة البرمجيّات، يجب أن يكون هو المسيطِر. وتُعرَف البرمجيّات التي تمنح المُستخدِم السيطرة باسم البرمجيّات الحرّة (Free Software). كلمة ”الحرية“ تشير إلى حريّة المستَخدِم لا إلى السعر بالضرورة. حرية البرمجيّات تشبه مفهوم المصدر المفتوح، لكن تُمثِّل حركة المصدر المفتوح فرعًا من حرية البرمجيات، ويُركِّز على الفوائد العملية للأعمال التجارية بدلًا من المبادئ الأخلاقية. ولتجنُّب الالتباس بين هذه المصطلحات، يُستخدَم أحيانًا مصطلح محايد يجمعها؛ FLOSS (اختصار لـ: Free/Libre and Open Source Software).[٢]
لقد شرح آخرون المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها البرمجيّات الحرة، وبيّنوا أهميتها بشكل أفضل مما يمكنني أن أُقَّدمه هنا، لذا لن أخوض في التفاصيل. هي تقوم في جوهرها على أربع حريات أساسية:
- حرية تشغيل البرنامج كما يشاء المُستخدِم، ولأي غرض يختاره.
- حرية دراسة المُستخدِم لطريقة عمل البرنامج، وتعديله ليؤدي الوظائف كما يرغب.
- حرية إعادة توزيع نسخ من البرنامج لمساعدة الآخرين.
- حرية توزيع نسخ معدَّلة من البرنامج.
تحقيق الأرباح من «البرمجيّات الحُرّة ومفتوحة المصدر»
الانتقاد الأكثر شيوعًا الذي أسمعه هو أنّ البرمجيّات الحرّة تُصعِّب تحقيق الربح.
لكن مفتاح الربح في هذا النوع من البرمجيّات هو اعتبار البرنامج نفسه مُكمِّلًا مَبيعيًا لخدمات أخرى مُربِحة. ومن الأمثلة على هذه الخدمات: الدعم الفني، والتخصيص، والاستشارات، والتدريب، والاستضافة المُدارة، وبيع الأجهزة، والشهادات. هناك العديد من الشركات التي تعتمد هذا النموذج بدلًا من تطوير برمجيات محتكرة، ومنها: «ريد هات»، «كولابورا»، «سيستم ٧٦»، «بيورزم»، «كانونيكال»، «سوزه»، «هاشيكورب»، «داتابريكس»، و«غرادل».
لكن الاعتماد الكامل على الاستضافة المُدارة قد لا يكون رهانًا حكيمًا، لا سيما مع وجود شركات عملاقة مثل AWS تقدم الخدمة بسعر أقل. يمكن للمطوِّر أن يملك أفضلية في مجالات مثل التخصيص والدعم والتدريب، لكن لا يكون له الأفضلية ذاتها في مجال الاستضافة.
البرمجيّات الحرّة ليست دائمًا كافية
البرمجيّات الحرّة ضرورية، لكنها أحيانًا لا تكفي لبناء مناعة ضدّ تدجين المُستخدِم. هناك عاملان إضافيان لا يقلّان أهمية، هما البساطة والمنصات المفتوحة.
البساطة
عندما تصبح البرمجيات معقّدة جدًا، فإنها تحتاج إلى فريق كبير لصيانتها. لا يستطيع المُستخدِم ببساطة أن ينسخ المشروع ويعدله إذا كان ضخمًا ومعقَّدًا، لا سيما إن كان يحتوي على ثغرات أمنية كامنة. يصبح الاعتماد على البائع أمرًا مقلقًا عندما تؤدي درجة تعقيد البرنامج إلى تضخُّم تكاليف التطوير بشكل مهول، ولذا قد يضطر البائع إلى إدخال ميزات معادية للمُستخدِم لضمان البقاء.
عندما يصعب على أي جهة أخرى أن تطوِّر البرنامج بسبب تعقيده يؤدي إلى اتكال المُستخدِمين عليه، وهنا يبدأ تدجينهم. هذا وحده يكفي لفتح الباب أمام تطوُّرات تؤذي المُستخدِم.
دراسة حالة: «موزيلا» والويب
كان متصفح «موزيلا» بريق أمل في معركة المتصفحات، ساحة حرب تهيمن عليها الإعلانات، والمراقبة، والاحتكار التقني. للأسف تطوير محرّكٍ لمتصفح مهمة ضخمة ومعقّدة، لدرجة دفعت شركات مثل «أوبرا» و«مايكروسوفت» إلى الاستسلام وإعادة تصميم «كروميوم». لم تعد المتصفحات مجرد أدوات لعرض الصفحات والنصوص كما كانت في الماضي، بل تحوَّلَت إلى منصات متكاملة تُشغِّل تطبيقات معقدة. فهي اليوم تدعم ميزات مثل تسريع الرسوميات باستخدام بطاقة الرسوميات (GPU)، والاتصال عبر البلوتوث، والتحكم في الأذونات، والتعرّف على الأجهزة، وتشغيل الصوت والفيديو، وإدارة حقوق المحتوى[٣]، ودعم الإضافات، وتوفير أدوات خاصة بالمطوِّرين، وغيرها من الوظائف المتقدمة. معالجة الثغرات الأمنية في هذه المنظومة المعقّدة، ومجاراة معيار يتوسَّع بوتيرة مُقلِقة، تتطلبان مليارات الدولارات سنويًا. ولا بدّ أن تأتي هذه المبالغ من جيبٍ ما.
انتهى الأمر بـ«موزيلا» إلى تقديم تنازلات كبيرة حتى تضمن بقاءها. وَقَّعت صفقات بحث مع شركات معادية للمُستخدِم، وملأت متصفحها بالإعلانات والبرمجيات غير الضرورية (Bloatware) مثل «بوكيت»، وهو تطبيق محتكر لحفظ الروابط، يعتمد تمويله جزئيًا على الإعلانات. ورغم أن «موزيلا» أعلنت بعد الحصول على «بوكيت» (سعيًا لتنويع مصادر الدخل) أنها ستفتح مصدره، إلّا أن ذلك لم يتحقَّق بعد، صارت الخوادم مفتوحة المصدر، لكن ظلّ كود الخادم محتكرًا. فتح مصدر هذا النظام وإعادة كتابة بعض أجزائه عند الحاجة سيكون حتمًا مهمة ضخمة، ويرجع ذلك جزئيًا إلى التعقيدات ضمن برنامج «بوكيت».
تواجه النسخ الفرعية مثل «پيل مون» صعوبة في مجاراة التطوُّر المتزايد في معايير الويب الحديثة، مثل Web Components. في الواقع، اضطر « پيل مون» مؤخرًا إلى تهجير الكود الخاص به من «غيت هاب» لأن «غيت هاب» بدأ باستخدام Web Components، وهي ميزة معقدة لا يستطيع أن يدعمها. أصبح إنشاء متصفح جديد من نقطة الصفر أمرًا شبه مستحيل في الوقت الحاضر، فهذا يتطلَّب منافسة عمالقة التكنولوجيا بعد أن أنفقوا مبالغ خيالية لعقود. ولم يعد أمام المُستخدِم سوى ثلاث خيارات: محرِّك «موزيلا»، أو محرِّك «بلينك» من شركة الإعلانات «غوغل»، أو «ويب كيت» من «آبل» ذات النظام المغلق. ورغم أنّ «ويب كيت» لا يبدو سيئًا، سيكون المُستخدِمون بلا حول إذا قرَّرَت «آبل» أن تتراجع في أي وقت.
خلاصة الحديث هي أنّ تعقيد منصة الشبكة أجبر «موزيلا» —المطوِّر الوحيد لمحرِّك يدَّعي خدمة ”الناس لا الربح“— على تضمين ميزات معادية للمستخدم في متصفحها. وقد ترك هذا التعقيد المُستخدِمين محصورين بين ثلاثة لاعبين كبار بينهم تضارب مصالح، ولهم مكانة تزداد ترسُّخًا بمرور الوقت.
وبالمناسبة، لا أعتقد أن «موزيلا» منظَّمة سيئة؛ بل أجد أنه من المدهش أنها ما زالت قادرة على أن تُقدِّم هذا الكم من الخدمات دون المزيد من التنازلات في نظام يكاد يتطلب التنازل كواقع لا مفرّ منه. ما يزال منتجها الأساسي ضمن «البرمجيّات الحُرّة ومفتوحة المصدر»، وهناك بعض التطبيقات الخارجية الخفيفة التي تزيل الميزات المعادية للمُستخدِم.
المنصات المفتوحة
لمنع تحوُّل تأثير الشبكة إلى حالة احتكار تقني من البائع، يجب أن تكون البرمجيات التي تحفِّز تأثير الشبكة بطبيعتها جزءًا من منصة مفتوحة. أمّا فيما يتعلق بتطبيقات المراسلة، يجب أن يكون من الممكن تطوير تطبيقات وخوادم بديلة تتوافَق مع بعضها البعض، لمنع اكتمال أول خطوتين في عملية تدجين المستخدمين.
دراسة حالة: «سيجنال»
منذ أن غرّد بائع سياراتٍ معروف: ”استخدموا «سيجنال»“، أطاعه عدد كبير من المستخدمين وهاجروا إلى «سيجنال» أفواجًا. في وقت كتابة هذا المقال، ما زالت تطبيقات «سيجنال» وخوادمه ضمن «البرمجيّات الحُرّة ومفتوحة المصدر»، وتستخدِم بعضًا من أفضل تقنيات التشفير التام بين الطرفيات (E2EE) المتوفرة. مع ذلك، لست من المعجبين به.
رغم أنّ تطبيقات وخوادم «سيجنال» مفتوحة المصدر، إلّا أن المنصة نفسها مغلقة. انتقد المؤسِّس المشارك موكسي مارلينسبايك المنصات المفتوحة واللامركزية، وقد شرح سبب إبقاء «سيجنال» مغلقًا في تدوينة له[٤]. هذا يعني أنه لا توجد طريقة لتطوير خادم بديل مدعوم من تطبيقات «سيجنال»، أو تطوير تطبيق بديل يتوافق مع خوادمها. هكذا تكون الخطوة الأولى من عملية تدجين المستخدمين قد اكتملت تقريبًا.
إضافة إلى وجود تطبيق واحد فقط، وخادم واحد فقط، هناك أيضًا مزوِّد وحيد لهما: .Signal Messenger LLC. وقد ارتدّ هذا الاعتماد على خادم مركزي في وجوه المُستخدِمين حين أدّى النمو المفاجئ في عددهم إلى توقُّف الخدمة لأكثر من ٢٤ ساعة ممّا أوقف خدمة المراسلة حتى أصلحت الشركة الوحيدة الخلل.
ورغم ذلك، حاول البعض أن يطوِّر تطبيقات بديلة، إذ سعى تطبيق فرعي يُدعى «ليبر سيجنال» إلى تشغيل «سيجنال» على نسخ «أندرويد» التي تراعي الخصوصية، دون أن يعتمد على خدمات «غوغل بلاي» المحتكرة. لكن أُغلِق المشروع بعد أن صَرَّح موكسي بوضوح أنه لا يوافق على استخدام تطبيقات خارجية لخوادم «سيجنال». قرار موكسي مُتفهّم، لكن كان يمكن أن يتفادى هذه الأزمة لو لم يكن «سيجنال» يعتمد على مزوِّد خوادم وحيد.
وإذا قرَّرَ «سيجنال» يومًا ما أن يُدرِج ميزة معادية للمُستخدِمين في تطبيقها، فلن يكون أمام المُستخدِمين سوى أن يرضخوا، كما حدث مع «واتساب» بالضبط. ورغم أنني لا أظن أن ذلك سيحدث، إلّا أن طبيعة المنصة المغلقة تجعل المستخدمين عرضة للتدجين.
ورغم أنني لست مُعجبًا بتطبيق «سيجنال»، لكنني كنت أوصي به لأصدقائي غير المتخصصين تقنيًا، لأنه كان التطبيق الوحيد الذي يجمع بين الخصوصية التي ترضيني، ويُسر الاستخدام بالنسبة لهم. ولو أنّ التطبيق تضمَّن حرفيًّا أي خطوات عند البدء باستخدامه (مثل إنشاء الحساب يدويًا أو إضافة جهات الاتصال يدويًا)، لكان أصدقائي هؤلاء قد استمروا باستخدام «ديسكورد» أو «واتساب». لو كان عندي أمل بأنه وصل هذه السطور من المقالة، لربما قلت له: ”أنت عارف نفسك“.
موضوع يستحق التفكُّر
هاتان الدراستان —«موزيلا» و«سيجنال»— مثالَان على منظمّات نواياها حسنة، لكنّها تركت مستخدميها عرضة للتدجين دون قصد. «موزيلا» مثال على منصة مفتوحة تعاني من التعقيد، بينما «سيجنال» مثال على منصة مغلقة تمتاز بالبساطة. لا مكان للنوايا في معادلة التدجين بخطواتها الثلاث والتدابير المضادة.
أشار Paulsnar إلى احتمال وجود تناقض بين مبدأ البساطة وفكرة المنصات المفتوحة:
”أشعر أنّ هناك تعارضًا بين البساطة والانفتاح؛ فلو أخذنا «سيجنال» مثالًا نجده بسيطًا إلى حدٍّ ما، تحديدًا لأنه منصة مغلقة، أو على الأقل الأمر كذلك على ذمة موكسي. بالمقابل، يبدو «ماتريكس» بسيطًا ظاهريًا، لكن البروتوكول معقَّد في جوهره، تحديدًا لأنه مفتوح.
ليس لدي إجابة بسيطة على هذه المعضلة. صحيح أن «ماتريكس» شديد التعقيد (مقارنةً ببروتوكولات مثل «آي آر سي» أو حتى «إكس إم بي بي»)، وصحيح أنّ بناء منصة مفتوحة أصعب. لكن هذا لا يعني أنه مستحيل، فما زال بإمكاننا أن نتحكم في التعقيد أثناء تطوير منصات مفتوحة مثل «جيميناي»، و«آي آر سي»، والبريد الإلكتروني. رغم أن معايير البريد الإلكتروني ليست ببساطة «جيميناي» و«آي آر سي»، إلّا أن وتيرة تطوُّرها بطيئة، وهذا يحوْل دون الحاجة إلى خوض سباق دائم لمواكبتها، كما هو الحال مع متصفحات الويب أو عملاء «ماتريكس».
ليس من الضروري أن تُدِرّ كل البرمجيّات أرباحًا بالمليارات. فالاتحادية(Federation) تسمح ببناء خدمات وشبكات مثل «فيديڤيرس» و«إكس إم بي بي»، لتتوسُّع دون أن تضطر أي جهة إلى أن تعقد صفقة مع الشيطان لتغطي تكاليفها. حتى وإن كانت نماذج الأعمال المناهضة للتدجين لا تُحقِّق أرباحًا طائلة، فإنها لا تقل كفاءة في إنتاج التكنولوجيا التي يُنتجها تدجين المُستخدِم. ما تفتقر إليه هذه المشاريع فعلًا هي ميزانية إعلانية؛ إذ إنّ أقصى ما تحصل عليه من ترويج هو تدوينات طويلة كُتبت دون مقابل.
ربما آن الأوان لنتحرَّر من هوس ”النجاح المُطلَق“. ربما يكفينا الوصول إلى الاستدامة والأمان المالي، ونُمكِّن الناس من تحقيق المزيد باستخدام موارد أقل.
ملاحظات ختامية
هذه التدوينة، التي باتت أقرب إلى بيان، كانت في بدايتها تكملة لتعليق تركته على منشور من بينيامين غرين في «فيديڤيرس».
أخترت أن أنشرها بهذه الصيغة الواسعة لأسباب شخصية. يطالبني الناس دائمًا بشرح مفصَّل كلّما رفضتُ أن استخدِم تطبيق ”يستخدمه الجميع“ (مثل «واتساب»، أو «مايكروسوفت أوفيس»، أو «ويندوز»، أو «ماك أو إس»، أو «مستندات غوغل»). وغالبًا ما يتجاهلون توضيحي، لكنهم يصرّون على سماعه. وبحلول اللقاء التالي، ينسون ما قيل سابقًا، ويعيدون نفس الحوار من جديد. تبرير اختياراتي الحياتية بإرسال حجج منطقية إلى العدم—فأنا أعلم أن قولي سوف يُتجاهَل—هو أمر استنزفني نفسيًا على مدار السنوات الماضية. إرسال هذا الرابط إلى أصدقائي ثم الانتقال لموضوع آخر قد يساعدني على تجنُّب الشيب المبكِّر.
يُعَدّ هذا المقال امتدادًا للفلسفة التي تقوم عليها حركات البرمجيات الحرّة والحقوق المتروكة Copyleft. أقدم الشكر إلى بارنا زومبور على ملاحظاتها القيِّمة حول بروتوكول «آي آر سي».
ولأن ٢٩٠٠ كلمة لم تكن كافية، فقد كتبتُ مقالًا لاحقًا بعنوان: إبقاء المنصات الإلكترونية مفتوحة أنصحك بقراءته إن أثار هذا المقال اهتمامك.
الترجمات
باب الترجمات مفتوح دائمًا.
ترجم Евгений Кузнецов هذه المقالة إلى اللغة الروسية: WhatsApp и одомашнивание пользователей
ترجمها فريق Framalang من Framasoft إلى الفرنسية: WhatsApp et la domestication des utilisateurs
ترجمها Licaon Kter إلى الرومانية: WhatsApp și domesticirea utilizatorilo
ترجمها David Jimenez إلى الإسبانية: WhatsApp y la domesticación de usuario
ترجمها Skariko من Le Alternative إلى الإيطالية: WhatsApp e l’addomesticamento degli utent
وأخيرًا، ترجمها puer robustus إلى الألمانية: WhatsApp und die Domestizierung von Nutzern
تمت إعادة نشر هذا المقال وفقاً لرخصة المشاع الإبداعي - Creative Commons، للإطلاع على المقال الأصلي.

